هذا الحوار استثنائي لسببين: الأول لأن ثلاثة شباب قادمين من نوعين أدبيين: القصة والشعر، ومن النقد أيضاً، يحاورون أحد أعمق وأنبل الشخصيات الأدبية، حسين البرغوثي، والثاني هو أن الأسئلة التي سؤلها حسين هنا لم يسألها من قبل، وبالتالي فهي التي تشكل مفاتيح مهمة للتعرف إلى فكر وفلسفة هذا الإنسان الذي لايكفّ عن إدهاشنا.
حاوره: زياد خداش، مالك الريماوي، وليد الشيخ.
* خداش: تبدو الآن متصالحاً مع المكان، الناس، العائلة، الوطن. في السابق كنت مختلفاً جداً مع كل شيء، ما الذي حدث؟
ـ في الثمانينيات كانت الخرائط مفروزة في منظمة تحرير وإلى احتلال على سبيل المثال، وإلى أجهزة تابعة لكليهما، بعد أوسلو وانهيار الاتحاد السوفييتي والمتغيرات التي حدثت على الساحة العالمية والمحلية والعربية، أعيدت صياغة الأمكنة الذهنية، إضافة إلى نظام الأشياء، هذا كان يعني النظر إلى الخارطة الجديدة بمفاهيم جديدة، تسمح بقراءة أدق وأسلم وأكثر مغامرة، إن جاز التعبير، من القراءات السابقة، على سبيل المثال، لم تعد كلمة (يسار) تعني ما كانت تعنيه، كذلك كلمة (سلطة)، لم تعد العلاقة بين الأشياء والكلمات واضحة، كان يجب تقديم مفاهيم جديدة للتعامل مع هذه المرحلة، أحد المفكرين السود ويدعى (كورنل وست) كتب مقالة سمّاها "المثقف النبوي" الذي يضع أمام المثقفين السود "ثقافة الأقلية" لا يوجد أمامهم إلاّ أربعة حلول لمواجهة السلطة:
أولاً: أن يندمج المثقف مع التيار السائد، وهذا يقود إلى نتائج على إبداعه ورؤياه.
وثانياً: أن ينعزل عزلة مطبقة، وهذا له نتائج على إبداعه، وهذا الخيار أحيانا ينتج عظماء، وأحيانا ينتج دمارا.
أما الثالث: فأن تكون موجودا خارج التيار السائد وان تطمح أن تكون داخله ولهذا الموقف نتائج أيضا.
ويفضل (وست) الخيار الرابع: وهو أن تحتفظ بأسس رؤياك وجذورها وأن تتعامل مع أفضل ما يمكن أن يكون سائدا، وهذا يعني المحافظة على استقلالية الرؤية، وأعتقد أن الخيار الرابع هو خياري.
* خداش: أعتقد أن المقارنة بين بيئة (وست) وثقافته ومرجعياته الحياتية الاجتماعية، وبيئة فلسطين الثقافية، فيها بعض التعسف أو عدم العدالة أعني "خصوصيات المرحلتين أو البيئتين"؟
ـ الخصوصيات دائما موجودة، أنا أتكلم عن الخيارات الثقافية، عندما تتأمل قوى المعارضة، لا تستطيع أن تنظر إليها بشكل مطلق على أنها تمثل الجديد والنقي مقابل الفساد والشر، وفي داخل السلطة، أيضا،
توجد أجنحة متعددة الخرائط ليست واضحة بما يكفي حتى داخل الأفراد، الأمور تداخلت واشتبكت، وهذا يدعو إلى إعادة صياغة للأشياء، بحيث تحافظ على شروط رؤيانا، تتعامل مع الأفضل بغض النظر عن كونه سلطة أو معارضة، هذا يعني إطلاق سراح الفكر من القوالب الجاهزة التي كانت سائدة وكافية لكي ترسم الخارطة للمغامرة، وفي المغامرة يمكن أن تخطئ، لا يجب أن نحيا مرتعبين من الخطأ، وهكذا يتحرر الفكر ويغادر ويتجدد.
* خداش: لكن نصوصك لم تتغير، الشك والاغتراب والرفض والرؤية المغامراتية أو الجنون الفني المحموم؟
ـ أعتقد أنني أطرح في نصوصي بدائل رؤيوية، ولا أرى أن الواقع يتطابق مع هذه الرؤى، وهو لا يعني أن ما هو موجود يتفق مع الرؤية أو أن الرؤية موجودة وسائدة. وهذا يعني أن الموقف النقدي الرؤيوي هو أن نحافظ على مسافة نقدية كافية، وعلى أفق رؤيوي للمستقبل، لا يتصالح مع الواقع، على أية حال اعتقد أن هذا هو موقفي الشخصي.
* الريماوي: كيف يمكن طرح بدائل رؤيوية، وأهم مفهومين "السلطة والمعارضة" هما مفهومان غير واضحين وملتبسان؟
ـ رؤياي تقول ما يلي: ما دام هناك جهاز دولة من أي نوع أعتقد أنه توجد عليه مشكلة، لا توجد دولة تتفق مع رؤياي، أية دولة مهما كان شكلها، يمينية أو يسارية أو اشتراكية، هذه هي رؤياي الداخلية، أحلم بمجتمع لا دولة فيه ولست مع المثالية لأحلم بأن هذه الرؤية قد تتحقق خلال قرن، أرى أنه دائما ستكون هناك دولة على الأقل طوال حياتي وفي حياة أجيال قادمة.
وهذه الوقائع مهمة لا يمكن أن نعزل أنفسنا عنها، ويجب أن نجد مخرجا ما بين وجود واقع أنت تراه خارج رؤياك، ووجود رؤية نقدية، في الواقع نتعامل مع التاريخ وليس مع المثل لأن المثل المجردة تقود إلى عبارة الشخص نفسه، وتقود إلى الدمار الروحي فيه، الشيء الآخر وهنا أنا (نيتشوي) أرى أن جميع التاريخ الإنساني خلق فكرا يقول "لا للحياة" ، وخلق حياة تقول "لا للفكر"، وهذا أساس المرض في العالم كله. إذاً مسألة الرؤية لا أقصد بها الوضع في فلسطين، ولا أقصد الرؤية الدينية أو السياسية، الرؤية المقصودة هي التي تختص بالتاريخ ككل بما حدث ويحدث وسيحدث. أنا مقتنع تماماً بـ(علي شريعتي) عندما درس التجربة الإيرانية وخرج بنتيجة أنه يكفي أن تكون منحازا للضحايا وأنا منحاز للفقراء والضحايا، ويجب أن يكون داخل القلب كنوز، بالمعنى الصوفي إن جاز التعبير، يجب أن تستند الرؤية إلى تنوير داخلي وليس فقط إلى مرجعية تاريخية، لأن نتائج ذلك قادت إلى جرائم.
* خداش: قال محمود درويش يوماً ما معناه: إن كل شيء قيل، وإن أقصى ما يمكن قوله، تنويعات على لحن متكرر، هل قلت كل شيء؟
ـ بمقدار ما أعلم في الشعر العربي زهير بن أبي سلمى كان أول من قال: لا نقول إلاّ كلاماً مكروراً، وكذلك عنترة في الوقت نفسه، لكن هذه الأقوال لا تغلق التاريخ، دائماً هناك تشابه، ودائماً يوجد اختلاف، ولن يتوقف الاختلاف، ولن يتوقف التشابه، ولا أرى في وجود التشابه مأساة، ولا أرى في وجود الاختلاف فضيلة، أعتقد أنني لم اقل كل شيء "رداً على سؤالك" لم اقل عشرة في المئة مما أريد أن أقوله، ولا يرعبني وجود التشابه ولا يدهشني وجود الاختلاف.
* خداش: نصك المدهش "حجر الورد" يبدو محتفظاً بطاقة سحرية سريّة، حدثني عن هوية هذا النص الذي يبدو بلا مرجع، وعن دوافعه؟
ـ هو محاولة رؤية للتاريخ، يجب أن تحرم فيها ما يسمّى (الواقع) من كونه المقياس أو المعيار القيمي والأخلاقي أو الفني أو الجمالي للنص، أعتقد أن الهدف هو تحويل الواقع ذاته إلى سطح أو خيار لا مرجعية ثابتة أو صحيحة بالضرورة. كنت أطمح إلى تحويل الواقع بواسطة النص إلى نص آخر، لأن التاريخ كما رسخ، رسخ باعتباره المرجعية الأولى للخيال والروح، وهذا واقع مبتذل، لذلك يجب تجريده من زعمه أنه يستطيع كما هو أن يكون مقياساً.
الهاجس الثاني هو "حجر الورد" كان دفع اللغة نحو أقصاها، نحو الموسيقى المحضة. وعندما تتحول اللغة إلى موسيقى محضة، تتحول إلى لعبة كلمات أو تختفي كمفردات، تصبح موسيقى أو إيقاعات، ودفعها، أيضا، إلى الاتجاه المعاكس تماما، لتتحول إلى لوحة بمقدار ما يمكن، وفي هذه المساحة المتطرفة من الموسيقى في لغة تكاد تنهار إلى موسيقى محضة ولغة تكاد تنهار إلى لوحات محضة، تقوم بفعل جذري لإحداث انبهار في الخطاب، وفي هذه المساحة من الانهيارات تفتح ثغرة جديدة لرؤية الرؤية التي أتحدث عنها، الفكرة التي تبلورت مع إبراهيم المزين أنه يقوم هو برسم مجموعة لوحات تعبّر عن رؤياه لحوار أجريناه معا حول النص، وأقوم أنا بكتابة رؤياي الخاصة، ونضع اللوحات والنص معاً، بحيث لا تكون اللوحات مجرد تعليق أو ترجمة أو ملحقة بالنصوص، ولا يكون النص ملحقاً باللوحات فيكون هنا "تخالف" بين النصين بطريقة تفتح الأبواب واسعة للتناقضات.
إذا كان صحيحاً أن التاريخ وحدة وصراع المتناقضات، فقد كنا نريد أن نخلق نصاً فيه وحدة وصراع الأضداد، أعتقد أن النصوص الأدبية عموماً، ربما بسبب بنية المجتمع العربي تجنح إلى التشابه داخل النص، وتطمح إلى التصالح، أما أنا فأطمح إلى بُنى تقود إلى تناقض في القصيدة. مثلاً أطمح إلى قصيدة تستوعب "الأسعار في الحسبة" على رأي محمود درويش: قصيدة تدخل إلى داخلها الحياة بكل جزيئاتها الصغيرة والمتنوعة، ولا تنعزل إلى مجرد غنائية بسيطة، هذا، أيضاً، له صلة بالمتناقضات، تناقض بين الأدب والحياة، وجعل الأدب منعزلاً عن نبض الحياة الدائم، وهذا أحد الجذور التي قادت إلى قصيدة النثر، فقصيدة النثر كانت تريد صلة أكبر بإيقاعات الحيازة.
* خداش: هذا يقودنا إلى سؤال ضروري، هل لديك مشروع شعري تطمح إليه وتفكر فيه كهاجس؟
ـ نعم، لكنه ليس مشروعي الوحيد، بمعنى أن الرؤية التي أتكلم عنها يمكن أن تعبّر عن ذاتها بأشكال وأنواع أدبية مختلفة، بالسينما أو النص أو الكتابة النثرية أو النقد الثقافي أو بطرق متعددة.
* الريماوي: كيف تستطيع أن توفّق بين قصيدة تحاول أن ترسم ضجيج الأشياء وتحوّل الواقع إلى نص، وقصيدة تسعى إلى أن تكون "كوناً موسيقياً"؟
ـ في الموسيقى "المعنى الدقيق للكلمة" لا يدعى كل ضجيج موسيقى، ولا تستطيع أن تلتقط أي صوت لتقول هذا موسيقى رغم أنه يمكن أن تخلق موسيقى من أي ضجيج أو مادة خام، ففي القصيدة ككون موسيقي إن جاز التعبير، هناك حدود فنية، يعني أنه يمكن أن تتدهور موسيقى النص إلى ثرثرة عادية لا تثير أحداً، وهذا شرط فني، مثلما قال (بورخيس) الحياة اليومية فيها خيال أدبي فقير جداً، ولا أرى الشرط الفني "الانسجام مع فقر الخيال في الشارع" باسم الواقعية، إذا كان هناك فقر، تستطيع أن تضعه داخل النص كتعبير عن فقر الخيال، وليس كمرجعية؛ لذلك فإن الشروط الفنية معقدة أكثر من اللازم، ولا أزعم أنني سأستطيع التوفيق بينهما، إنني أجرب وآمل أن تكون هذه التجارب ناجحة إلى حدود المعقول مع الإصرار على أنها تجارب وليست نصاً نهائياً، إنها تقترح اقتراحات معيّنة، أنا لا أعمل للوصول إلى الكمال، ولا تهمني فكرة الكمال، التجربة عندي ليس الهدف منها بناء (فيللا) من كل حجر، يمكن أن تصل إلى نحت حجارة مستقلة.
* الريماوي: ما قصدته هنا هو كيف تكون اللغة أداة حمل الرؤيا وموضوعها في آن، أي كيف تتمكن من حمل رؤياك بعد أن تكون قد صدعتها بشكل زلزل أنظمتها؟
ـ اللغة ليست أداة للرؤية، بالعكس اللغة أداة رؤيوية إذا كانت اللغة محافظة فهذا يعني أن الرؤية فيها نقص.
* الشيخ: أشعر أحياناً أن أفكارك توجد خارج اللغة مع أنك دائماً تقول أن لا شيء خارج اللغة؟
صحيح، لكن في داخلي توجد حقيقة "لغتان" لغة أتكلم بها بالمعنى العادي، ولغة أخرى عندما أكتب، وهذا انفصام في الرؤية عندي، لم أصل إلى مستوى الكلام كعرّاف في كل مناسبة، لكن، أيضاً، لا أكتب كما أتكلم، وهناك انفصام بين ما هو مكتوب كنص وما أتكلمه، اللغة لا أتكلمها منطقية عقلية تفتقر إلى الأبعاد التصويرية والمجازات.
* خداش: هل تكتب إذاً عكس ما تتكلم؟
ـ في كثير من الكتابات التي تزعجني أرى أن الذي يتكلم والذي هو خيال أدبي فقير يحوّل نفسه إلى نص.
* الشيخ: أرى أن لديك مشروعاً فلسطينياً كبيراً قد تحتمل الفلسفة أشياء لا تحتملها اللغة، ولكن أنت تقدم جزءاً من هذا الفكر الفلسفي الموجود في ذهنك وتحوّله إلى نصوص، لكن الموجود أكبر وأشمل؟
ـ هذا صحيح، لكني تربيت لفترات طويلة، وحتى بالمعنى الأكاديمي على اللغة الفلسفية الجافة والتي تقوم على مجادلات منطقية، مثل المنطق الرياضي.
لكني اكتشفت لاحقا أن هذه اللغة ذاتها تقوم بقمع الذات ويجب نقدها وتجاوزها؛ لهذا لم تتحول الفلسفة عندي إلى الهدف، هي أداة، أيضاً، يتم تجاوزها: أستخدمها بتجاوزها أو أتجاوزها باستخدامها، لكنها ليست هي الحل بالضرورة؛ لذلك مثلاً في رسالة الدكتوراه جادلت في اختلاف جذري بين منطق القلب ومنطق العقل وأرى أنه يمكن استخدام المنطقية، علماً أن الأدب والفن يلائمهما منطق القلب؛ لهذا أستخدم العقل وأنتقده، القلب كذلك؛ لأن القلب بلا عقل قلب مجنون.
* خداش: تحدثت عن ضجيج الشارع اليومي، وهذا الضجيج يومي وعادي، فكيف ستنقل لغة هذا الضجيج اليومي إلى اللغة الثانية التي تكتب بها؟
ـ أعتقد أن القلب الموجود عند الشخص يقوم بعملية (فلترة) أو تصفية لما يأتي من الخارج وينقيه من الشوائب وعملية (الفلترة) صعب أن أصوغها بشكل منطقي، لكن لو كنت ماراً في الشارع وسمعت كلاماً كثيراً جداً، من كل هذا الكلام سألتقط أية قيمة فنية، هذا هو الفرق بين اللغة التي أحكيها واللغة (المفلترة). و(إليوت) قال: "إن الموهبة تُقترض أما العبقرية فتُنهب" وأرى أن طموحي هو أن استطيع إلا أن أقترض، رغم طموحي النهبي، وهذا يعني تحويلاً جذرياً في الأشكال الفنية بحيث تكون قادرة على استيعاب ما تنهبه كما هو، وحتى الآن لم أصل إلى هذا المستوى.
* الريماوي: ذكرت أن القلب وحده دون العقل هو منطق مجنون، أليست هذه محاكمة للقلب من خلال مقاييس العقل ومركزيته؟
ـ ما أسمّيه القلب، أو ما سمّاه التاريخ سيُفهم بشكل خاطئ إذا ما تم تصوره مستقلاً عن المنطق، سواء أكان منطقاً أسطورياً أم رياضياً عقلياً، القلب لا ينمو وحده. هناك جدل قائم بين العقل والقلب. القلب، أيضاً، ينضج ويتطور مثله مثل العقل؛ لذلك يمكن أن أقول شخصياً "إنني أنقد القلب بالعقل"، فمثلاً عندما كنت مراهقاً كانت تخطر ببالي أسئلة من نوع إذا كانت توجد مشاعر كالحسد والحقد؟، قد تكون هذه المشاعر بدائية أكثر من اللازم أو مشاعر (قردية) وليست هي الشكل الوحيد للمشاعر، في النص الجديد (الضوء الأزرق) هناك جملة بهذا المعنى " كما يوجد تخلف قلب هناك متخلفون عاطفياً أيضاً". وهذا يعني العمل الدائم على تطوير القلب.
إن مصطفى سعيد، في (موسم الهجرة إلى الشمال) عقلي ضخم، لكن فيه تخلف قلب، وهذه اللعبة بين العقل والقلب ضرورية في أية رؤية، أنا ضد أن يوضع العقل في قفص الاتهام باعتباره لا يعني شيئاً، وضد أن يرفع القلب دون أية شروط إلى مستوى الألوهية أو النبوّة، هناك جدل عميق بين العقل والقلب، كالجدل بين رحم الأم والجنين، (نيتشه) قال: "إن العقل يجب أن يكون بمثابة أحشاء القلب".
* خداش: مبكراً جداً كتبت هواجس الروح الخفية وأسرارها وقواها، في مرحلة كان البوح بهذه القضايا يشبه اتهاماً بالخيانة، الآن الكل يتحدث بلا توقف عن الحداثة أو أدب ما بعد أوسلو، هل أدب ما قبل أوسلو عار أو سبة في جبين الثقافة الفلسطينية؟ وما هي الحداثة؟
ـ في السياق الأوروبي، للحداثة معانٍ مختلفة، تمتد لقرون ويوجد جدل حولها، أما عندنا فالحداثة لا معنى لها، لذلك أُفضل التفكير دون مفاهيم مستوردة، أُفضل عدم الكلام عنها أصلاً فهو أفضل للأدباء والأدباء، أمّا عن أدب ما قبل أوسلو باعتباره عند بعض الناس شتيمة، وما بعد أوسلو هو نبوّة، فهذا منطق ابتذالي، بالنسبة إلي: جانب معين في الحداثة عربياً هو عملية التفاعل بين المناطق التي كانت للعثمانيين ومناطق أوروبا التي كانت تدخل في الرأسمالية، هذا أنتج بنى الرأسمالية الأوروبية، والبنى العربية ما قبل الرأسمالية وهي بنى زراعية. هذه الحداثة العربية يجب أن توضع في سياق استعماري، عملية التحديث عندنا حدثت ضمن سياق تبعية؛ لذلك فنقد الحداثة عندنا سيأخذ أشكالاً مختلفة عن نقدها في أوروبا. والفكر الحداثي عندنا له أشكال مختلفة عن حداثة أوروبا.
* الريماوي: ما يجري في الحياة الثقافية الفلسطينية هل هو انتصار لرؤية أم خضوع لمنطق الهزيمة السائدة، بمعنى هل هو تقدم للأمام أم هروب إلى الخلف من مواجهة إخطبوط العولمة وامتداداته المحلية؟
ـ يبدو لي أنك تستطيع أن تجادل بأن الثقافة العربية بعد القرون الوسطى دخلت مرحلة هزيمة تاريخية لم تخرج منها حتى الآن، الهزيمة الفلسطينية بعد أوسلو وسقوط الاتحاد السوفييتي جاءا ضمن هزائم متتالية وتاريخية، وتستطيع أن تقول، أيضاً: إن الفكر العربي بمقدار ما كان يحاول الخروج من هذه الهزيمة، فإنه، أيضاً، نتاج للهزيمة.
* الريماوي: ماذا عن الهزائم الفلسطينية تحديداً، لا نستطيع إطلاق هذه الصفة بشكل عام على الثقافة الفلسطينية، يمكن أخذ نماذج مختلفة بأشكال مقاومة وأشكال تساوق وأشكال الهزيمة لكن يجب أن نكون أكثر حذراً من إطلاق التعميم، هناك فروق كبيرة ما بين رسام ورسام، وكاتب وكاتب، أما أن جو الهزيمة حاضر فهذا صحيح وهو شرط مفروض عليك أن تتعامل معه؟
ـ على سبيل المثال: ما معنى قول "سجل أنا عربي" لمحمود درويش أمام الحاكم العسكري الإسرائيلي؟
هو تأكيد العروبة والانتماء أمام الهزيمة، وهي قصيدة مقاومة، لكنها لم تكن لتبرز هذه المقاومة لو لم تكن أنت تحيا ضمن هزيمة، وما معنى التأكيد على فلسطينيتك أصلاً لولا وجود هزيمة وخطر محو وجود؛ أن شرط الهزيمة موجود، ليس فقط في الأدب المهزوم، بل في الأدب المقاوم وهذا ينطبق على ما قبل أوسلو وبعده.
* خداش: ما هو دور المثقف تجاه ما يجري من فساد وانحرافات وتخريب؟
ـ هذا سؤال إشكالي، في الماضي حُمل المثقف أكثر بكثير مما يحتمل بالمعنى الذي سمي (الدور)، يبدو أن هذا الدور نجح في جعل الكثير من الفلسطينيين مثقفين سياسيين ومساهمين في السياسة، لكن له نتائج سلبية على الأدب، وبالتالي فمفهوم الدور قابل للجدل: هل يوجد للمثقف دوره وإذا وجد فهل هذا الدور بالشكل الذي يتصوره الشارع أو الناس السياسيون؟ في رأيي إن الإجابات التي أعطيت لهذه الأسئلة كانت ساذجة على سبيل المثال: هل تحويل اللغة هو دور المثقف، أم لا؟ وإذا لم يحولها فهل هو يخضع للنظام السائد؟ كثير من المثقفين لم يحولوها وكانوا مُنصَبين كممثلين للثورة، وهل هو ضروري هذا الدور؟
* الشيخ: أشعر أحياناً عندما أقرأ ما تكتب أنك تخفي نساءك. ثمة نساء محتجزات خلف كلماتك، وقلما ظهرت المرأة الشبقة والعادية؟
ـ عندما تقول أحرفاً تركبها معاً لكي تعطي ما يسميه العرب القدماء اللفظ الجزل، فأنت تحول اللغة لكي تأخذ نمط القوة الذكورية، وعندما تنسج اللغة لكي تتحول إلى منديل فأنت تنسج الأنثى، هذا الجدل بين الذكورية والأنثوية في نصوصي موجود في كل سطر. أحياناً تبدو اللغة وكأنها تقتحم أو تحتاج، وهذا موقف فيضاني يمكن أن نسميه الذكوري.
ومرات تنحسر اللغة مثل الموج المنحسر، وهذا نوع من الأنوثة، يمكن أن تقول إن هذه العلاقات بين ذبذبات الفيزياء داخل اللغة هي، أيضاً، علاقات لذة، أو نشوة، وجزء من مشروعي الذاتي هو إعطاء اللذة في الموسيقى والتصوير، إعطاء اللذة باعتبارها الموقف الأساسي من الحياة، لذلك ففي (حجر الورد) أو في (الضوء الأزرق) هناك تحويل لطاقة الحزن والانكسار إلى نشوة: الموسيقى هي نشوة الأحرف والمفردات، حتى إن الكلمات عندما تقول معنى عن الحزن والانكسار فأنا أعالجها بدقة هائلة من الموسيقى حتى تصبح النشوة هي السائدة.
* الشيخ: أنت تميل إلى الهزيمة أمام الأنوثة إذاً؟
ـ لا، أنا أبحث عن توليفة من اللذة، التي يمكن أن نسميها الذكر والأنثى الموجودة في اللغة، موقف من اللذة يجتاح الاثنين ويسوقهما أمامه، أتذكر مقطعاً لي: معناه "لست رجلاً ولا امرأة ولا أيضاً بين بين، فأنا اختفاء النهر عند التقاء الضفتين". "اللذة ليست فقط جنسية، في رأيي أن الرقص الحقيقي لذة. أنا شخصياً أحس بأن أجمل ما أكتبه يكون عندما تتحول اللغة إلى لذة مطلقة.
اللذة كموقف كوني (بيوكيميائي) أكبر منها كموقف مع المرأة أو كموقف (بيولوجي). اللذة الحالية عند الكثيرين والتي تتمحور حول (البورنو) أو اللذة (البيولوجية) تدل على حياة فقد أحياؤها اللذة فيها، حياة فقيرة لدرجة أنه بقيت لحظة من اللذة هي علاقتهم بالحياة".