المتوكل طه
***
النكبة هي اقتلاع شعب وطرده من أرضه بالقوة، ولكنها أيضاً إحلال شعب مكان آخر. إن هذه الكلمات على مباشرتها وبساطتها وإمكانية فهمها، هي ببساطة أيضاً جريمة إنسانية بكامل المعاني والمفاهيم والمعايير. ولأن النكبة حدثت أو وقعت في التاريخ، أي يمكن رصدها وتوثيقها، أو لأنها حدثت دون ضجيج، أو لأنها حدثت ثم تَمّ استيعابها من العالم، أو لأنها حدثت دون أن تتحوّل إلى حدث فريد في التاريخ، أو لأن العالم الغربي الاستعماري نظر إلى ما حدث باعتباره جزءاً من العقيدة والسلوك الأبيض الاستعماري، فإن النكبة بهذا المعنى، تحوّلت بقدرة قادر إلى قضية إنسانية وفرّغت من معانيها الكارثية والأخلاقية، تحولت النكبة في عرف المستعمِر – على أنواعه – إلى مشكلة جوعى وعراة، ولهذا أو لأن هذا كذلك، فقد تمّ تفريغ قرار 194 من مضامينه كلها، وتحولت الحقوق إلى مصالح، واستبدلت المبادىء بترجمتها، وبدلاً عن الحديث عن جماعة ذات حقوق لا يمكن الانتقاص منها صار الحديث يجري عن تنفيذ الممكن منها، وهذا "الممكن" عادة ما يضيق ويقل كلما تقدمنا في الزمن . المستعمِر عادة ما لا يؤمن بالمطلق، والمستعمِر عادة ما يضيق بالقوانين الثابتة. المستعمِر ظرفيّ واستثنائي، ولهذا فهو يبحث عن الظرفي والاستثنائي دائماً في كل شيء.
والنكبة التي لحقت بالشعب الفلسطيني العام 1948هي الذروة لعصر الاستعمار الاوروبي الكلاسيكي الذي انحسر في القارات الخمس بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إسرائيل التي قامت في نهاية تلك الحرب هي نتاج انقلاب التاريخ وانعطافه. في انقلابات التاريخ وانعطافاته الدراماتيكية تظهر شعوب جديدة ودول جديدة وافكار جديدة. الحرب العالمية الثانية التي انهت الاستعمار الأبيض الأوروبي القديم بشكل أو بآخر، كانت هي المسرح السياسي والعقائدي الذي استغلته الحركة الصهيونية ومَن يدعمها علناً وسرّاً، اقليمياً ودولياً، لتقيم لها وطناً على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب أرضه ووجوده وإنجازاته وجذوره وثقافته، وهكذا كانت النكبة في معناها البسيط والمباشر، الاقتلاع والطرد ومن ثم الإحلال.
والنكبة هي "إسرائيل" التي قامت على أرضنا، ومعها كل ذلك الإرث الاستعماري الأبيض، لا يمكن للصهيونية إن تنكر كونها إرثاً استعمارياً أبيض، الصهيونية التي تحاول الادّعاء أنها ثورة على الاستعمار والكراهية والفوبيا والتمييز وعُقَد المرض والتوهّم. هي ببساطة جزء من هذه المنظومة التي سقطت ذات يوم، المستعمِر يسقط لانه يتآكل من الداخل، ولإنه يخسر دائماً، ولأنه لا يستطيع توليف حكايته كل يوم ومن ثم يجد مبرراتها ومسوغاتها، الاحتلال بقدر قابليته للسقوط والتآكل بقدر كونه مكلفاً ليس لمن يقع عليهم الاحتلال وإنما لأولئك الذين يقومون بفعل الإحتلال، ومن هنا كان الاحتلال آيلاً للسقوط دائماً، مزعزع الأركان دائماً، لا يجد ولا يمكن أن يجد راحة أو أمناً أو طمأنينة، حتى تلك الأنواع من الإحتلالات التي كانت في أراضٍ بعيدة وشعوب بدائية. إن تلك الدوافع التي أهابت بالرئيس الامريكي كارتر ومن ثم كلينتون لاستقبال ممثلي الهنود الحمر في البيت الابيض هي ذات الدوافع التي نرصدها في نفس أي لص مهما بلغ ذلك اللص من مواقع أو إنجازات. لا يمكن قتل الحقائق. ولا يمكن الإلتفاف عليها، ولا يمكن تزييفها، نحن هنا نتحدث عن قوانين وليس مجرد تمنيّات او تخمينات.
النكبة هي الخيانة أيضاً، إن درس النكبة من نواحيها المختلفة، ومن مصادر مختلفة، ومن وجهات نظر مختلفة، تفزعنا تماماً كما حدثت أول مرة، لقد حدثت النكبة ليس لأن الصهاينة كانوا أقوى أو أكثر عدداً أو أحسن تجهيزاً أو أدقّ خططاً وتخطيطاً، بالعكس من ذلك تماماً، كانوا أضعف منا، وأقل عدداً، وأكثر خوفاً، وأكثر فرقة، وهذا الكلام لا نقوله بدون إثبات أو برهان، لنقرأ ما كتبه مؤرّخوهم عن تلك الفترة، وسترى العجب العجاب، ستجد أن النخبة العربية، النخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت نخبة مريضة ومشوّهة مرتبطة، كانت نخبة عميلة، بأقسى ما في الكلمة من معنى. الجيوش السبعة التي قيل إنها قاتلت على أرض فلسطين لم تُقاتل الصهاينة ولم تتصدّ للهجاناه أبداً، الجيوش السبعة كانت تترصد بعضها البعض، وتنفذ سياسات متشككة ومتوجسة، كانت الجيوش السبعة تعبيراً عن انقسام العالم العربي وتعدد اتجاهاته، ولهذا لم يكن من العجب أن لا يسقط من تلك الجيوش مجتمعة اكثر من 650 شهيداً، نحن هنا لا نتحدث عن الجماهير التي كانت على استعداد لفعل العجائب - وبالمناسبة فإن القادة العرب في تلك الاثناء طلبوا من الشعب الفلسطيني إن لا يشارك في ما أسموه بالعمليات، وذلك من أجل تحييد تلك الجماهير، تحييد الجماهير ظلّ تكتيكاً متبعاً في الحروب العربية باستثناء العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 - نحن هنا نتحدث عن النخبة المعطوبة التي لم تستطع أن تحتمل التاريخ ولا انعطافه. كانت النكبة بهذا المعنى، هي الخيانة. في بعض الأحيان أرى أن الهزيمة هي خيانة بشكل من الأشكال.
والنكبة حلقة من حلقات الغزو الغربي الاستعماري الصليبي، اذ لا يمكنني أن أفصل بين موجات الغزو الإفرنجي وبين موجة الاستعمار الصهيوني على بلادنا، الصهاينة هم غرب، هم علمانيون، هم متدينون، يأخذون دعمهم من الغرب ويتلقّون أموالهم وعتادهم من الغرب، والغرب لا ينتقدهم ولا يخالفهم ولا يعارضهم ولا يحرجهم. الصهاينة بهذا المعنى هم غرب استعماري صليبي ليس إلا، ولأن ذلك كذلك، فإن الصهيونية تفعل ما فعلته كل موجة من موجات الغزو السابق، لقد بنت الصهيونية أسوارها وسياجاتها وأبراجها وأشهرت أسلحتها وطردت واقتلعت وصادرت واحتقرت، تماماً ككل مستعمر غازِ غريب. إن النكبة – وخاصة أنها تتعلق بأرض فلسطين – تعني أنها حققت – ولو بشكل جزئي – ما فشلت به الحروب الصليبية ومن ثم الاستعمار الأوروبي التقليدي، وبقول قد يبدو فيه تجرؤ وتعجّل، فإن النكبة هي هدية الغرب الأخيرة للمنطقة وشعوبها ودينها وتاريخها. إن قيام إسرائيل – بما في ذلك من استثارة للنبؤات والمشاعر الدينية – يعني تحقيق الوعد والنبؤة ونهاية التاريخ. ولماذا لا تكون إسرائيل الجديدة إشارة على نهاية التاريخ ؟!
النكبة تعني وقف التطور الطبيعي للشعب الفلسطيني ومن ثم تشويهه وتشريده، وتحويله من شعب كان يمكن أن يفعل المعجزات على أرضه، إلى شعب من المُلاحقين والجوعى والمشبوهين في منافيهم القريبة والبعيدة، تحوّل الشعب الفلسطيني في معظمه إلى أفراد بلا هويات وبلا روابط، تحولوا فجأةً إلى لاجئين، إن وضع "لاجىء" وضع لا إنساني، ولا طبيعي، ولا حقيقي أيضاً. إن وضع "لاجىء" الذي أصبح وصفاً للفلسطيني يعني أن الفلسطينيين عليهم إن يطوّروا مجتمعاً آخر في الهواء، وبين الفراغات، وبين الأسيجة وتحت الخيام، ومن ثم في مدن الأحزمة الفقيرة، وفي الإزدحام والفقر والظلم، ولم يكن من المستغرب أن يصطدم المخيم بما حوله من عواصم أو مدن. لا يمكن تطوير هوية ومجتمع في الفراغ، أو في الهواء، أو بين الأسيجة، ولا يمكن تطوير أو تطور مجتمع تحت الحصار وتحت الملاحقة وتحت الشبهة ودائرتها. النكبة تعني أن الشعب الفلسطيني كان عليه أن يبدأ من الصفر، وأن يعيد تشكيل ذاته في أماكن متعددة، وكان عليه أن يرمّم هذه الصورة من مختلف الأمكنة، ذات الشعب الفلسطيني وهويته اصبحت – بسبب النكبة ليس إلا – ذاتاً متعددة وهوية تتأثر بالزمان والمكان. إن الرابط الوحيد الآن بين كل الفلسطينيين هو فلسطين فقط، ذلك أن المنفى ليس مجرد نزهة وليس مجرد إقامة مؤقتة، المنفى له بصمات، وله ضغوط، وله قدرة على إعادة التشكيل في بعض الاحيان، بناء المنفى يعيد تشكيل فلسطين ذاتها. إن فلسطين التي يحلم بها فلسطينيو لبنان غير تلك التي يحلم بها فلسطينيو الضفة والقطاع إلى حدٍ كيبر.
النكبة هي المنفى القاسي الفارم الذي يجعل من الوطن خيالاً أندلسياً كاملاً أو يقدمه بطريقة أخرى. المنفى ليس سهلاً، وليس مجرد مكان. إنه ثقافة.
والنكبة هي النضال، هي حركة التحرر الوطني، وهي الَقَدر الذي يتحمّله أبناء الشعب الفلسطيني في أن يقاتلوا الإحتلال وأن يطردوه وأن يعيدوا الأمور إلى نصابها. إن صراعاً وصل عامه المئة هذه اأيام يعني أن الإحتلال ليس مجرد تغيير سلطات، وإنما هو الموت الزؤام.
النكبة أيضاً فضيحة العالَم الأخلاقية وجرح الكون النازف، الدال على انتفاء العدالة الأرضية، وفشل ما يُسمّى بالمجتمع الدولي في حل القضية لمدة تزيد على اثنين وسبعين عاماً، وعدم قدرة الليبرالية الغربية في حل الإشكال لأنها أي هذه الليبرالية – جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل، أو لأنها سبب المشكلة. بكلمة أخرى، إن النكبة بحد ذاتها دليل على مدى العطب الذي يلحق ويميز هذه الليبرالية، وفي مدخل آخر، فإن هذه الليبرالية لا يمكن لها أن تُسوق لنا أفكارها النيّرة او المتنّورة! فالليبرالية كاذبة ومخادعة ومنافقة، ولا يمكن أبداً اعتبار أن العالم يصل إلى ذروته الأخلاقية والسياسة معتمداً على هذه الليبرالية، وبهذا لم يخطىء فقط هيجل ولكن فوكوياما أيضاً، كلاهما اعتقد أن الليبرالية الغربية كفيلة بتحقيق السعادة والعدالة والاكتفاء، وكلاهما لم يرَ الجانب الأسود والقبيح لهذه الليبرالية. الأول رأى ذلك يتحقق في نابليون وبروسيا الذي أراد استعمار بلادنا والثاني رآها في الولايات المتحدة التي تريد أَن تحكم العالم وتضبطه .
والنكبة هي أيضاً دليل عجز النظام العربي ودليل فشله ودليل انقسامه وتفتته، عندما تضيع فلسطين عادةً ما تكون البلاد العربية وجماهيرها في أسوأ الحالات، وعندما تُستعاد فلسطين عادةً ما يرافق ذلك تغييرات عميقة تجري على مستوى النخبة والقاعدة، هكذا تعلمنا الدروس الماضية. ضياع فلسطين وإعادتها عملية صعبة وطويلة ومريرة، تدخل فيها الأنظمة والشعوب في أتون من مجريات التاريخ يتم فيها خروج الخبث وبقاء ما ينفع الناس ، ولهذا فإن النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني هي دليل الخراب والفشل وغياب العلم وانعدام الإيمان.