الكاتب: جمال زحالقة رئيس حزب التجمع
عشية الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، دخل عمير بيرتس الرئيس الحالي لحزب العمل الإسرائيلي، إلى صالون حلاقة برفقة كاميرات التصوير، ووقف أمامها قائلًا: «أنا أقول وأكرر انّي لن أشارك في حكومة يرأسها نتنياهو، ولكن هناك من لم يقتنع ويعيد السؤال هل سأشارك؟ لقد قررت أن أحلق شاربي حتى يرى ويقرأ الجميع شفتيّ بوضوح حين أقول ذلك».
قام الحلّاق، أمام الكاميرات، بحلق شنب عمير بيرتس، وفورا بعدها قام بيرتس عن كرسي الحلاقة مسرعًا إلى الإعلان، بلا شاربين، أنّه لن يشارك في حكومة نتنياهو مكررًا ما قاله بوش الأب، حين وعد بأن لا ضرائب جديدة: أقرئوا شفتيّ. كلاهما طبع نكث الوعد، فانضم بيرتس إلى حكومة نتنياهو وبوش فرض ضرائب إضافية، كما هو معروف.
لم يحصل حزب العمل في الانتخابات سوى على ثلاثة أعضاء، وانضم إلى حكومة نتنياهو كحزب هامشي. وتدل كل استطلاعات الرأي في الأشهر الأخيرة، على انّه لن يعبر نسبة الحسم، ما يعني انه سيختفي رسميًّا عن الساحة، أو أنّه سينضم إلى أحد الأحزاب القائمة، وغالبًا سيكون ذلك هو حزب «أزرق ابيض» الذي يرأسه بيني غانتس. يمكن القول بأن حزب العمل، كحزب سياسي له وزن، انتهى، فهو لم يعد قادرًا على الوقوف لوحده، وإذا عاد مرة أخرى إلى البرلمان فسيكون ذلك بركوب سيارة حزب آخر. لقد كان له أيّام عزّه حوالي 50 نائبًا في الكنيست، وانتهى به الأمر إلى ثلاثة نواب، ولن يحصل عليها اليوم لو خاض الانتخابات لوحده.
تعود جذور حزب العمل، ومرحلته الأولى إلى بداية القرن الماضي، مع تشكيل عدد من المجموعات الصهيونية اليسارية الاشتراكية، وبالأخص حركة «أحدوت هعبودا ـ اتحاد العمل» وحركة «هبوعيل هتعير ـ العامل الشاب» اللتين اتحدتا عام 1930 وأقامتا حزب «مباي ـ حزب عمال أرض إسرائيل». وبدأت الحلقة الثانية في تاريخ اليسار الصهيوني، وفي الانتخابات للمؤتمر الصهيوني عام 1933، فاز حزب مباي وفرض هيمنته التامة السياسية والثقافية على الحركة الصهيونية والييشوف اليهودي في فلسطين، وصولًا إلى عام 1948 بإقامة دولة إسرائيل، وتنفيذ مشروع التطهير العرقي في فلسطين. وبدأت بعدها المرحلة الثالثة في تاريخ التيار العمالي الإسرائيلي حتى عام 1977، حين فاز مناحيم بيغن والليكود في الانتخابات، لتبدأ الحقبة الرابعة والأخيرة من المسلسل، حيث بدأت مرحلة عشرات السنين من التراجع المضطرب وصولًا إلى النهاية الكوميدية بحلق شنب رئيس حزب العمل عمير بيرتس.
لم ينهر حزب العمل دفعة واحدة، بعد خسارة السلطة عام 1977، واستطاع المحافظة على قوّة كبيرة تنافس الليكود، ولكنه فقد الهيمنة، ولم يعد حزب السلطة الوحيد. في عام 1992 وصل إلى السلطة بقيادة إسحاق رابين، وعقد اتفاقية أوسلو المشؤومة، وفي عام 1999 وصلها بقيادة أيهود براك. الذي عاد من كامب ديفيد الثانية معلنًا أنّه «لا يوجد شريك فلسطيني» وقام بالقمع العسكري للانطلاقة الشعبية للانتفاضة الثانية، وكانت النتيجة أن انهار حزب العمل إلى حزب متوسط لا ينافس إلى السلطة، وتحوّل بعدها إلى حزب صغير وهامشي، وإلى الاندثار الفعلي في السنوات الأخيرة.
لعل السبب المركزي لاختفاء حزب العمل، هو خسارته لقاعدته الانتخابية وابتعاد النخب السياسية عنه. جاء ذلك تبعًا لانزياح متواصل للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، وازدياد العداء للعرب والفلسطينيين، وكذلك «الكشف» عن خواء شعارات حزب العمل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويختفي حزب العمل تاركًا خلفه إرثًا ضخمًا، يتغلغل في كافة مناحي الحياة في المجتمع الإسرائيلي وفي الدولة العميقة. لقد اختفى الحزب لكن ارثه لم يختف، كما أن القضاء على سيّد الشرّ، «الذي لا يذكر اسمه» في أفلام «هاري بوتر» لا يعني نهايته، فله عدة أرواح في عدة مواقع ومن الصعب اقتلاعها والتخلّص منها.
تاريخيًّا، حزب العمل (وباسمه السابق مباي) هو أهم الأحزاب الإسرائيلية على الإطلاق، فقد كان في موقع القيادة والقرار في المحطات المهمة للمشروع الصهيوني. لقد كان عدد اليهود في فلسطين عام 1930، عند تأسيسه 170 ألفًا وارتفع عددهم تحت قيادته إلى ملايين عام 1977، حين انتهت حقبة هيمنة الحزب الواحد، وكان حزب مباي، طوال هذه المدة هو الحزب المهيمن بلا منازع، هو الذي أقام إسرائيل، وقاد حروبها وصاغ بنيتها التحتية والفوقية. إذا أردنا أن نحدّد أي الأحزاب الإسرائيلية لعب الدور الأهم في الحرب على شعب فلسطين، فلا شك أن المرشح الوحيد هو تيار اليسار الصهيوني، وفي مركزه حزب العمل، فهو المسؤول عن نكبة فلسطين، وعن خلق قضية اللاجئين، وعن تدمير مئات القرى والمدن الفلسطينية، وعن الاحتلال والتهجير عام 1967، وعن هندسة بنية وسياسة التمييز العنصري ضد فلسطينيي الداخل، وهو الذي خاض حروب إسرائيل الكبرى: حرب نكبة 1948، والعدوان الثلاثي عام 1956 وحرب حزيران 1967، وحرب أكتوبر 1973، إضافة إلى اعتداءات عسكرية وجرائم حرب لا أول لها ولا آخر. لم تقع المصائب الكبرى على شعب فلسطين من رعاع يصرخ «الموت للعرب» ولا من حركات يمينية متطرفة، بل من أولئك الذين دخلوا القرى والمدن ودمروها وطردوا أهلها، وهم ينشدون بالعبرية «هفينو شالوم عليخم» أي أتينا عليكم بالسلام، وكان هذا شعار شباب وشابات عصابات الهاجاناة والبلاماح، التي شكلت الذراع العسكري لليسار الصهيوني.
لقد كان حزب العمل هو من أسس وبنى نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، والليكود واصل العمل في إطاره وعلى أساسه. كان الفصل العنصري الأول والأكبر هو التطهير العرقي في فلسطين عام 1948، الذي قاده حزب مباي بزعامة بن غوريون، والذي مكّنه من إقامة «دولة ذات أغلبية يهودية راسخة». وقام اليسار الصهيوني، بعدها، بفرض الحكم العسكري على الفلسطينيين في الداخل، وقام بمصادرة أراضيهم، ووضعهم تحت نظام التمييز العنصري. وكان حزب مباي هو من أسس للمشروع الاستيطاني في المناطق التي احتلت عام 1967، وأسس أول مستوطنة، بعد الحرب بشهر واحد فقط، وهي كيبوتس «اشتراكي» في الجولان المحتل. وبادر شمعون بيريس وآخرون لإقامة مستوطنات في مناطق مختلفة في الضفة الغربية والجولان وغزة وسيناء، إضافة إلى مستوطنات على شكل أحياء سكنية في القدس الشرقية، وهكذا كان حزب العمل، قبل غيره، هو عرّاب الاستيطان.
لقد بنى حزب العمل حكمًا مركبًا في مركزه نظام ما يسمى «دولة يهودية ديمقراطية» لليهود في إسرائيل، والنظام الثاني هو «نظام التمييز العنصري» للفلسطينيين في الداخل، والنظام الثالث هو «نظام الاحتلال والفصل العنصري» في الضفة، والنظام الرابع هو نظام التهويد في القدس، والشكل الخامس للحكم هو نظام اللجوء المفروض على ملايين المحرومين من العودة (اللاجئ هو ليس من أجبر على الهجرة فقط، بل بالأخص الممنوع من العودة) وجاءت إضافة شارون بفرض نظام السجن على غزّة. هل هذا النظام الإسرائيلي المركّب هو نسخة عن نظام الابرتهايد البائد في جنوب افريقيا؟ هو ليس نسخة طبق الأصل لكنّه بالتأكيد من العائلة نفسها، وهو من مدرسة حزب العمل الإسرائيلي، ومن إنتاجه وإخراجه.
لم يبن حزب العمل النظام الكولونيالي العنصري فحسب، بل صاغ الخطاب الأيديولوجي والسياسي والتاريخي، لتبرير المشروع الصهيوني. ورغم أن قيادته التاريخية كانت غير متدينة وحتى ملحدة، إلّا أنها لم تجد تبريرًا يسوّغ الاستيلاء على أرض فلسطين سوى «كوشان التوراة» والوعد الإلهي بأرض إسرائيل، وكأنها تقول «صحيح أن الله غير موجود لكنّه وعدنا بأرض اسرائيل». وقام اليسار الصهيوني أكثر من غيره، بتحويل الأسطورة الدينية إلى «حق تاريخي» وبترجمته بلغة العصر إلى حق تقرير المصير لليهود في «وطنهم التاريخي» وزاد عليه خطابًا عن بناء مجتمع «عصري تقدمي اشتراكي مزدهر ينشد السلام». باختصار طبقات من الأكاذيب الواحدة فوق الأخرى، يحار المرء فيها وكأنّه يقشر بصلة طبقة كذب وتحتها طبقة كذب اخرى وطبقة بعدها طبقة، وعبثًا البحث عن بذرة حقيقة.
لقد كان لحزب العمل، على مدى عقود طويلة، دور مهم في تسويق المشروع الكولونيالي الصهيوني في الأوساط اليسارية في العالم، وبالأخص في الاشتراكية الدولية، حيث استقطب شمعون بيريس دعمًا كبيرًا من قيادات يسارية في عدد كبير من دول العالم، بعد إقناعها بما سمي مساعي السلام، والمسيرة السلمية، والحل الوسط، والمصالحة وأكاذيب «مقنعة» أخرى. وحكى لي أحد قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي أن بيريس كان يأتي إلى اجتماعات الاشتراكية الدولية ومعه حقيبة مليئة بالدولارات ويوزعها لإقناع من لم يقتنع، وأضاف «وبعض القيادات في الحزب الاشتراكي الفرنسي عادت وجيوبها ليست خالية».
أمّا اشتراكية حزب العمل فلم تكن سوى نوع من «العمل الجماعي المنظم» الذي كان الأنجع في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني، وفي تحقيق الأهداف الصهيونية وبناء الدولة والأمّة. وفي كتابه «إصلاح مجتمع، أم بناء أمّة؟» يثبت البروفيسور زئيف شترنهال، الذي مات قبل أسابيع، أن اليسار الصهيوني وفي مركزه حزب العمل استخدم مبادئ الاشتراكية ليس لبناء مجتمع عدالة اجتماعية بل كأداة في البناء القومي للأمة. هذا صحيح ولكن ليس هذا هو الأمر الأهم، فالقضية ليست كيف ينظم المستوطنون الكولونياليون أنفسهم، بل مصير ضحايا هذا المشروع الاقتلاعي الكولونيالي الاستيطاني «الاشتراكي» الذي قلّ مثيله في التاريخ والجغرافيا، وفيه الاستيطان والاقتلاع والاحتلال هي أفعال على الأرض والاشتراكية هي كلام للتمويه.
لقد ورث الليكود ما خلّفه حزب العمل وزاد عليه. ولا تصح محاسبة إسرائيل اليوم على هذه الزيادة فقط، بل يجب العودة إلى الجذور، المرتبطة عضويًا بحزب العمل. وفي الحرب على الرواية نجد أنفسنا وجهاً لوجه، ليس أمام أكبر مشروع سطو في القرن العشرين، بل أمام أكبر مشروع تبرير كاذب أيضًا. نحن نعرف أنه كاذب، لكن علينا أن نثبت ذلك للداني قبل القاصي. يجب تفكيك أساطير حزب العمل، التي هي الأساطير المؤسسة لإسرائيل وللمشروع الاستيطاني في فلسطين برمته وبتفرعاتها وبناه التحتية والفوقية.