بقلم: د. صبري صيدم
ليلة إعدام جديدة عاشتها فلسطين هذا الأسبوع، لكن هذه المرة لم تكن عبر ضم أراض عربيةٍ أو مصادرتها، أو بناء مستوطنات جديدة، أو سرقة مياه جوفية، أو قرار عسكري أو سياسي احتلالي جديد، باعتبار أن هذه الخطوات لم تتوقف يوماً ومنذ احتلال فلسطين، وإنما عبر قرار شركة محرك البحث غوغل، التي اختارت إزالة مسمى فلسطين عن الأراضي التي تعرفها الأمم المتحدة، بحدود الرابع من حزيران/يونيو.
حادثة مرّت مرور الكرام في الإعلام العربي، لكنها حركت همم ناشطي التواصل الاجتماعي، الذين انتقلوا إلى موقع الهجوم عبر توقيع عريضة مليونية طالبت باستعادة اسم فلسطين.
وفي خضم هذه المعركة الملتهبة، يعتقد البعض بأنها المرة الأولى التي يطال الأمر فيها فلسطين، لكنها ليست كذلك. ففي سياق عنوانها الإلكتروني، قامت الشركة في 13 آب/أغسطس عام 2009 بتفعيل عنوانها الفلسطيني بعد 4 أعوام من إطلاق النطاق الفلسطيني المعروف بـ»دوت بي أس» الذي من خلاله ربطت الشركة بين عنوانها الإلكتروني، والنطاق المعرف لفلسطين دولياً أسوة بمعظم دول العالم.
وفي أيار/مايو 2013، غيّر محرك البحث غوغل الوسم الذي يستخدمه على صفحته الرئيسة للدلالة على الموقع الجغرافي، الذي يعمل به من «الأراضي الفلسطينية» إلى «فلسطين» وهو ما يعني استخدام كلمة فلسطين باللغة العربية على الصفحة الرئيسة للموقع الشهير، وهو ما عكس انتصاراً فلسطينياً إلكترونياً مدوياً، بينما رأت فيه إسرائيل استباقاً لما سمتها بالعملية التفاوضية، وحسماً للصراع الجغرافي القائم.
وقد ولّدت هذه الخطوة ضغطاً إسرائيلياً متواصلاً، وتساؤلات صهيونية عنيفة لمحرك البحث، حول مسببات الخطوة وأبعادها، ضمن محاولات إسرائيلية لم تتوقف وصولاً إلى نهاية عام 2015، عندما أزالت غوغل الضفة الغربية وقطاع غزة عن خرائطها العالمية، عازية أسباب الإزالة لما سمته بالخلل التقني، وبينت أنّها لم تسمِّ فلسطين في خرائطها مسبقاً، بينما أقدمت على إبراز دولة إسرائيل والمستوطنات الصهيونية في خرائطها، بما يخدم المصالح الإسرائيلية، ويتعارض مع مسؤولية الشركة في احترام حقوق الإنسان، وقرارات الشرعية الدولية، والقرارات التخصصية الصادرة عن المؤسسات المختلفة، بما فيها الاتحاد الدولي للاتصالات.
وعوضاً عن معالجة «الخلل الفني» أقدمت الشركة عام 2016 على حذف فلسطين من خرائطها، ووضع اسم إسرائيل على الخريطة بشكل كامل، بدون رد واضح من الشركة لتبرير ما قامت به، بأسلوب دنيء، بل عادت لاستخدام الأسطوانة المشروخة ذاتها، لتدعي من جديد بأن هناك خللاً فنياً قد طرأ .
وبقيت الحال على ذلك، إلى أن اختفت فلسطين بتاريخ 18 تموز/يوليو 2020 من خرائط محرك البحث الأمريكي «غوغل».
وعندما كثرت الأسئلة الموجهة إلى الشركة، بررت «غوغل» عدم وجود فلسطين على خرائطها بالسعي إلى تجنب عرض المناطق المتنازع عليها دولياً قائلة: «لم يتغير نهجنا فى تصوير المناطق على الخرائط».
وعند البحث اليوم في محرك البحث عن «فلسطين» فإن ما يظهر هو خرائط الدول المجاورة فقط، دون ظهور اسم فلسطين على الخريطة. وتدعي وثائق غوغل الإلكترونية أن الشركة تؤيد بشدة مبدأ حيادية الشبكة.
ووفقًا لما جاء في دليل حيادية الإنترنت الخاص بها، حيث تقول: «يتمكن مستخدمو الإنترنت من التحكم في المحتوى الذي يرونه، والتطبيقات التي يستخدمونها على الإنترنت» الأمر الذي يجافي حقيقة ما يتم في الواقع. وفي خضم هذا «الإعدام» الإلكتروني فمن المهم مراعاة ما يلي:
1ـ المعركة كما أثبتنا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لذلك وجب تصعيد الضغط والجهد باتجاه إدانة الشركة واستعادة المحذوف.
2- عدم الاستسلام لهذا الواقع، بل السعي لعكس القرار عبر التوجه لمؤسسات حقوق الإنسان والاتحاد الدولي للاتصالات والمؤسسات ذات العلاقة، بما فيها مؤسستا الآيانا والآيكان، والمطالبة بتعليق العمل بالنطاق الإسرائيلي إلى حين أن توقف دولة الاحتلال تكميمها الإلكتروني للأفواه، والاعتداء على الحريات واغتيال الحقائق، وقتل حرية التعبير ووقف استمرار القرصنة الصهيونية.
3 ـ عدم البحث عن بدائل لمحرك غوغل لكثافة مصادره وبكل اللغات، وقوة حضوره واستحواذه على قدر ضخم من المحتوى العربي والفلسطيني، بل المحتوى بكامل لغات العالم.
4- عدم نجاعة استخدام المحركات الأمريكية الأخرى، والمحركات الصينية والروسية لعدم توازي محتواها من حيث الكم والدقة، مع ما تمتلكه غوغل من بيانات وخوارزميات دقيقة، وسرعة لافتة في تضييق مساحات البحث، وصولاً إلى الهدف المنشود للباحث بعيداً عن إضاعة الوقت.
إن شركة غوغل، كغيرها من المؤسسات والأنظمة الدولية، تخضع وباستمرار لضغوط الاحتلال وأعوانه وداعميه؛ وستبقى هذه الحال ما بين مد وجزر وشدِّ وارتخاء طالما أن هناك احتلالاً يجثم على صدر فلسطين.
وهنا، يلاحظ أن المعركة مع الاحتلال ومن يقف إلى جانبه، لم تقف عند حدود اغتصاب الأرض بل تعدت ذلك إلى الماء، ثم الهواء حيث المعركة التي تستهدف استنفاد أوكسجين الاتصال والتواصل في عالم بات أشبه بقرية كونية، لم يعد سكانها غافلين أو مغيبين عن حقيقة أزلية مفادها، أن فلسطين الأرض والإنسان والماء والهواء لم ولن تكون يوماً إلا لمن روت دماؤهم ترابها وعطرت سماءَها أنفاسُ شهدائها.
إن الانتصار في هذه المعركة ليس أمراً مستحيلاً، لكنه يحتاج لجهد تكاملي من الجميع، وإيمان عميق بقدرة الجميع من مؤسسات وشركات وأفراد على هزيمة القرار، ووضع حد لغطرسة الاحتلال وصلفه في معركة الأرض والهواء والماء.