الكاتب: د. صبري صيدم
فقدت فلسطين والعالم العربي أول أمس شخصيتين ثقافيتين مهمتين شكلتا مخزوناً نضالياً ومعرفياً مهماً، لما حملاه من تجربة إنسانية مهمة، أعطتهما حضوراً نوعياً مهماً لن يمحى من أذهان وقلوب من عرفوهما ولامسوا أدبهما الثقافي وأدبهما الإنساني الجم.
ولعل اسم أولهما وارتباطه باسم تاريخي آخر تقاسم معه الحكمة والرشاد، وتذوق الأدب والشعر، قد شمل أيضاً مقارنة مستدامة بين ما قدمه الأول من حكمة ورجاحة عقل وحسن تذوق، وما قدمه الثاني من هدوءٍ واتزانٍ وخلقٍ كبير أسس لولادة مدرسة شعرية ملتزمة ومهمة.
هارون هاشم رشيد، علم من أعلام الشعر المعاصر، ومدرسة من مدارس الفخر والإباء، جعلت من شعره منارة معرفية مهمة في ما جمعته من صورٍ نضالية نوعية، جعلت من أبياته مادة دسمة لإثراء الأغنية الوطنية الفلسطينية، وإذكاء الأغنية العربية بقيادة أهم الفنانين العرب وعلى رأسهم الرائعة فيروز وأغنيتها:
سنرجع يوماً إلى حيّنا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع.. مهما يمرّ الزّمان
وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً، ولا ترتمي
على درب عودتنا موهنا…
هذه الكلمات التي لطالما شحنت عروق الثوار وأفئدتهم نقلت هارون هاشم رشيد إلى مربع الشعراء الذين عرفوا بشعراء النكبة، أو شعراء العودة، حتى امتاز شعره بروح التمرد والثورة، ليعد من أكثر الشعراء الفلسطينيين استعمالاً لمفردات العودة.
ورغم انشغاله بمنصب رئيس مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، ومندوب فلسطين المناوب بجامعة الدول العربية لسنوات طوال، إلا أن هذا لم يؤثر على عمله الثقافي في الكتابة والصحافة والتأليف والشعر.
عاصر الشاعر هارون هاشم رشيد الاحتلالين البريطاني والإسرائيلي، فعايش معاناة الغربة، وشاهد بأم عينيه هدم المنازل، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، حتى أصبحت تلك المشاهد، بوصفها الصورة اليومية لحياة المواطن الفلسطيني، تسكن أشعار رشيد وأبياته.
من رحم هذه المعاناة أصدر شاعرنا عشرين ديوان شعر، وتعهد بالنضال حتى آخر بيت شعر، حاملاً هموم شعبه ومقاتلاً من أجل استرجاع الحقوق الفلسطينية.
فأصدر ديوان الغرباء عام 1954 وعودة الغرباء 1956 وغزة في خط النار وحتى يعود شعبنا 1965 وسفينة الغضب عام 1968 ورحله العاصفة عام 1969 وفدائيون عام 1970 ومفكرة عاشق عام 1980 ويوميات الصمود والحزن عام 1983 وثورة الحجارة عام 1991 وطيور الجنة عام 1998 وغيرها، حتى اختيرت 90 قصيدة من تلك الدواوين لغناء فنانين عرب كفايدة كامل ومحمد فوزي وكارم محمود ومحمد قنديل ومحمد عبده وطلال مداح وفيروز وغيرهم.
أما الشخصية الثانية فهي الدكتور غاوي غاوي من مدينة الناصرة الفلسطينية، الذي ساهم في تأسيس أول أوركسترا وطنية مدرسية فلسطينية عام 2018 خلال عملي وزيراً لوزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية.
حصل غاوي وفق عدة مراجع ومنها موقع «ويكيبيديا» على درجة الدكتوراه في الموسيقى تخصص قيادة الجوقات من الكونسرفتوار الوطني بصوفيا عاصمة بلغاريا عام 1981، بعد أن قاد ذلك الكونسرفتوار فيها عام 1977. عمل منذ تخرجه أستاذًا مساعدًا في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، كما أصبح أول رئيس لقسم الفنون منذ تأسيسه بكلية الآداب عام 1982.
شارك غاوي عام 1983 مع مجموعة من الأكاديميين والفنانين الفلسطينيين في تأسيس أول قسم أكاديمي في الجامعات الفلسطينية للفنون الجميلة، حيث كان القسم يمنح شهادة البكالوريوس في تخصص الفنون التشكيلية والعلوم الموسيقية. وشارك عام 1993 في تأسيس كُلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية، ليصبح عميدًا لها في الفترة ما بين 1994 حتى 2002، والفترة ما بين 2013 ـ 2020، حتى أُعفي منها في 22 يوليو 2020 نظرًا لوضعه الصحي.
عمل غاوي أيضًا في علم الصوتيات، وعلاج النطق والسمع وإعداد وتأهيل المعلمين. له العديد من الأعمال الموسيقية منها: «ملحمة كفر قاسم»، و»أنا من هذه المدينة»، كما لحن أشعارًا لمحمود درويش وتوفيق زياد وغيرهم. كان عضوًا في لجنة تحكيم عدد من البرامج الموسيقية والغنائية، مثل برنامج «نيو ستار»، وبرنامج «سمعنا صوتك».
علمان ولدا في فلسطين لكنها عملا لخدمة عالم رحب أكبر من الجغرافيا، ولإنسانية تتعطش لعمل حضاري يجمع بين وفاء الإنسان لأصله، وحرصه على النهوض المعرفي البشري، بصورة جعلت البشرية تؤمن بأن حضور الإرث والإنتاج المعرفي والمخزون الثقافي تجعل العظماء لا يموتون أبداً!