بقلم: د. صبري صيدم
جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الشارع اللبناني بعد ساعات من كارثة بيروت، وإقبال الناس لمعانقته بحرارة والحديث معه، والتعبير عن شكواهم ومرارة ألمهم وضنك حياتهم، ويأسهم من الساسة ومن سماهم البعض بملوك الطوائف، أشعل في الأذهان والصدور بشاعة الفراغ السياسي، وغياب الدولة، وعطش الشعب لمن يكفكف دمعه ويحتضن مطالبه، وهو ما يقود وأمام حال الآخرين من العرب لسؤال مهم: هل يستجدي العرب عودة مستعمريهم؟
الجواب الأسرع لدى الغالبية العظمى هو النفي، لاسيما للقناعة الراسخة بأن مشاهد اليوم ما هي إلا نتاج الحالة الاستعمارية التي قادت إلى اتفاقية سايكس بيكو وتقسيم العالم العربي، وتوزيعه غنائم على شكل دويلات ساهمت في حالة الحسرة السياسية والجغرافية والدينية القائمة، التي أدت إلى تشتت الثروات، وولادة الأسر الحاكمة وطبقات النفوذ، ومساحات التفرد وما عاناه العالم العربي منذ عقود طويلة من اعتلالات واضحة قادت إلى حالنا اليوم.
لكن تراكمات العقود السالفة ونتاجات الربيع العربي، واستعصاء الأحوال السياسية في بعض الدول العربية وآثارها في لبنان، وحال الطوائف المتحاربة وتقاسم المغانم هناك، واستفحال فشل المحاصصة السياسية في توفير الحماية والازدهار المطلوبين، واحتدام المطالبات بالإصلاح، خاصة بعد عدم نجاح الحكومة المستقيلة بتوفير التغيير المنشود، وفرت جميعها الأرضية المطلوبة ليظهر الرئيس الفرنسي بمظهر المنقذ. وساهم انعدام القدرة لدى أي شخصية سياسية لبنانية على النزول إلى الشارع، والحديث مع الناس، والغياب الكامل لمشهد الالتحام الميداني مع الشعب ومواساته، في اضمحلال المشهد أكثر فأكثر حسب كثيرين، بل عزز ذلك اقتصار حضور البعض في الساعات الأولى التي أعقبت الانفجار على زيارة رمزية لبعضهم بعضا وعيادة حلفائهم من الزعماء الآخرين، وحتى ترجلهم الميداني المحدود فقد أحيط بالعسكر، أو حفنة من الأنصار وجيش صغير من المصورين، ما زاد من قتامة الصورة حسب اللبنانيين.
إذن فإن الكثيرين يرون أن التاريخ السياسي والزعامة التاريخية وقيادة الطائفة وما راكمه ذلك من مواقع ومناصب وحكومات، لم تكن كافية لإشعار أي من قيادات لبنان بالأمن والأمان، إثر الانفجار الأليم كي يتواجد وسط الناس، ولا حتى أي حشد من مناصريه، لاسيما وأن ذلك الانفجار ولّد انفجاراً معنوياً كبيراً في صدور اللبنانيين، خاصة لمجيئه بعد أشهر من الاحتجاجات التي من الواضح أنها وقبيل انفجار بيروت لم تفضِ لأي تقدم يذكر في تغيير الواقع المعيش، وخروج المجتمع من مآسيه، بل بدا أنه يقترب يوماً بعد يوم من الهاوية، مع قرب انهيار النظام المصرفي والعملة المحلية ومقومات الاقتصاد الوطني برمته.
ويشارك لبنان في حزنه وواقعه الأليم العديد من الدول العربية، التي دمرها الربيع العربي حتى باتت تعاني من زوال الأمن وانعدام الديمقراطية، وسواد الفوضى، واستدامة الاقتتال، وانتحار الحريات وغياب الدولة، فهل يتمنى أهلها عودة المستعمر كخيار أفضل من الحال الذي يعيشون؟
أعتقد أن حديث البعض عن ماكرون في لبنان، وحديث آخرين من أبناء العروبة عن عودة المستعمر، إنما يشكل انعكاساً لحظياً لحالة الإحباط والانكسار المعنوي وانحسار الأمل وفقدان الفرص، لكنه حتماً وفي ظروف أكثر هدوءًا لا يشكل طلباً ذي مصداقية.
فالعربي بطبعه أكثر ميلاً لعاطفته وهو ما يفسر جنوحه نحو المغالاة في التعبير عن مشاعره عند غضبه، لذا فربما يقود اليأس الناس لحديث يتجدد بهذا المستوى وربما أكثر.
ماكرون سيعود في الأسابيع المقبلة، وسيعيد حضوره النقاش إلى المربع ذاته، بل سيعززه أكثر خاصة مع دخول المشهد اللبناني الحكومي مع استقالة الحكومة، في حالة مراوحة، وغياب التواجد الفعلي للقيادات السياسية ميدانياً، وحالة الشلل التي أصابت أجهزة الدولة، جراء الواقع القائم، هو ما سيجسد ما أراده ماكرون ليبدو وكأنه يلعب دور الحماية لا دور الوصاية.
ماكرون زار لبنان وعانق أهله، وأرسل مساعداته، واستضاف مؤتمر الداعمين، وأقرّ بما وعد به، بأن تأتي المساعدات عبر مؤسسات دولية لا الدولة اللبنانية.
لكن هذا كله لن يقود إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، بل حبذا لو يشكّل منصة للاستفاقة وترتيب أوراق لبنان وعودته للنضارة التي عرفها الجميع عنه، حتى نكون جميعاً وفي مواقعنا المختلفة، فلسطينياً وعربياً عاملاً داعماً ومستمراً في انتصارنا للبنان ووحدة أراضيه، وسلامة أهله الذين تشاركنا معهم تاريخياً بالدم والموقف وإرادة الحياة.