بيت لحم- معا- شاع الآن نوع من الأعمال الأدبية المختصة بسحر المرأة الباريسية وجاذبيتها - ولكن ما سر هذا السحر؟ تحاول آغنيس بوارييه التي ولدت وترعرعت في باريس الإجابة عن هذا السؤال متابعة مراحل تطور "المرأة الباريسية".
غالبا لا تعي الفرنسيات - والباريسيات بالأخص - مدى الشغف الذي يثيرهن في نفوس الأجانب، حتى تكتشف الواحدة منهن قسما كاملا بالمكتبات من الأدب المدقق في كل تفاصيل حركة ومزاج المرأة الباريسية. أحيانا يكون المؤلف امرأة باريسية تعيش في الخارج، وأحيانا أجنبيا يعيش في باريس، بينما يهدف هذا النوع الخاص والمربح من الأعمال الأدبية لتثقيف قرائه وتعريفهم بأسرار "الطبيعة الباريسية للمرأة".
في السنوات القلائل الأخيرة ظهرت مؤلفات منها "كيف تصبحين باريسية" لكل من كارولين دو ميغريه وصوفي ماس وأودري ديوان وآن بيريست، و"زي الباريسية وأناقتها" تأليف إلواز غوينو، و"الأناقة الباريسية" للكاتبتين إينيس دو لافريسانج وصوفي غاشيه؛ وكذلك الكتاب المنشور أخيرا للمؤلفة لينزي تراموتا بعنوان "الباريسية الجديدة".
يمثل كتاب تراموتا عملا فنيا يحمل مزيجا من الصور والفكر السياسي وأدب الرحلات. تعبر الكاتبة عن غايتها من العمل بقولها إنها تريد "رفع الحجاب عن الصورة الأسطورية للمرأة الباريسية كامرأة بيضاء رشيقة دائمة الأناقة، لتستبدلها بالصورة الحقيقية للنساء الباريسيات". وبهذا الصدد تستعرض الكاتبة أربعين امرأة باريسية "خارجة عن القالب" منهن عمدة باريس آن إيدالغو وصانعة الحلوى موكو هيراياما والمترجمة بونام تشاولا، وغيرهن كثيرات البعض منهن سياسيات وسيدات أعمال وصاحبات رأي وتأثير في المجتمع من مصممات وفنانات وكاتبات ورياضيات.
تهدف تراموتا لإظهار تنوع المرأة الباريسية لتناقض الصورة النمطية - وهي الصورة التي ربما تشيع أكثر بين الأمريكيين - عن تلك المرأة بأنها دائما على شاكلة كاترين دينيف. تؤكد الكاتبة الفرق بين الشغف الوهمي لدى الأجانب وبين واقع المرأة الباريسية، كما تريد تراموتا - وقد صارت هي نفسها الآن باريسية - تثقيف قرائها بتبديد الوهم وتسليط الضوء على الحقيقة.
"الروح لا المظهر"
ولكن بالنسبة لكثيرات مثلي ممن تربين في باريس فالأمر أسهل بكثير، فما يصنع الباريسية ليس هو القوام أو لون البشرة أو الشعر ولا الصرعة بل يتعلق الأمر بنظرتها للعالم الذي تعيش فيه والحرية التي تتحدث عنها وتعيش بها، فالمرأة الباريسية بروحها لا بمظهرها.
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عرفت باريس بصالوناتها الأدبية والسياسية والفنية، وكثيرا ما كانت نساء تقوم عليها، ولم يقتصر دورهن على ضيافة الصالونات بل كان منهن كاتبات مثل جيرمين دوستايل ورسامات مثل إليزابيت فيغيه لوبران، وناشطات سياسيات مثل مانون رولان وفنانات مثل لورا هايمان، وحتى عالمات في الرياضيات مثل إميلي دي شاتيليه.
تركت ربات الصالونات أثرهن رغم تعرضهن للتهميش أحيانا من الرجال، واليوم أخذ التاريخ يسلط الضوء على إنجازاتهن. وكان لهؤلاء النساء، وقد تنوعت خلفياتهن الاجتماعية، الفضل منذ وقت مبكر في رسم صورة مشرقة للمرأة الباريسية في مخيلة العالم، فأصبح العالم شغوفا بعالمهن وسياساته.
ثم جاء ما عرف في فرنسا بـ"الزمن الجميل" في الفترة بين عامي 1871 و1914 ليضيف جاذبية جنسية خاصة لشخصية المرأة الباريسية، إذ جعل صورة المرأة الباريسية تقترن بامرأة متحررة لا تتورع عن المغامرة لحد الفضيحة بخوض التجارب الجنسية وكسر العرف والتحرر من الدين والأسرة والزواج.
وجسدت الروائية كوليت تلك الصورة للمرأة الباريسية في هذا الوقت كامرأة ذات نهم للحياة والحب والشهوة مع السعي للتحرر من الأزواج المثقلين لعاتقها والاستمتاع بالفضيحة والنضال من أجل التحرر المالي مستغلة الموهبة والإغراء. تحكي رواية كوليت القصيرة بعنوان "جيجي"، والتي أخرجها فينسنت مينللي كفيلم، قصة فتاة باريسية جعلوها مومسا لخدمة الأثرياء وسعيها للتوفيق بين الهوى والاستقلال.
الغموض والدعابة
وفي الفترة بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي عكست نجمات من الطبقة العاملة مثل المغنية مستينغيت والممثلة أرليتي صورة للمرأة الباريسية بروح دعابة حادة، وكذلك الراقصة الشهيرة جوزفين بيكر، وهي أمريكية من أصول أفريقية جعلت باريس مستقرا لها وجسدت أفضل تجسيد الروح الباريسية غير العابئة.
وأسبغت الخمسينيات والستينيات على المرأة الباريسية جوا من الغموض والدعابة بعقل راجح ونهم للتحرر جنسيا واجتماعيا. وبعد الحرب العالمية الثانية زاغت أنظار العالم وراء صورة المرأة اللعوب صغيرة الحجم سمراء اللون، وكان منها جولييت غريكو بفستانها الأسود وصوتها العميق المميز تغني لشعراء وفلاسفة مثل بريفير وسارتر، وكذلك راقصة الباليه دقيقة الجسد ليزلي كارون في فيلم "أمريكية في باريس" (1951) التي سحرت جين كيللي.
وكانت هناك جان مورو في فيلم "الصعود للدرج" (1958) للويس مال بشخصيتها الغامضة اللامبالية وهي تهيم في شوارع باريس ليلا على وقع موسيقى الجاز المرتجل لمايلز ديفيز. وتطول قائمة الأفلام التي حاكت في العقل الجمعي أسطورة الباريسية المتمنعة الجذابة.
في نفس الفترة أسهم مصورون مثل روبير دواسنو وهنري كارتييه-بريسون ورسام الموضة رينيه غرو في تصوير الباريسية كآية من آيات الأناقة، كما أضافت العارضة بيتينا بنمش وجهها وشعرها الأحمر ومكرها المزيد لتلك الصورة. ولم يقتصر الأمر على أناقة المظهر بل بالأكثر صورة الثقة بالنفس.
لكل شابة باريسية مثلها الأعلى، أذكر حين كنت طفلة في الثمانينيات أنني كنت معجبة بشدة بليزيت ماليدور الراقصة الممشوقة من كباريه فولي برجير وقد ولدت في جزيرة المارتينيك، وكانت تظهر دائما حليقة الرأس ما زادها جمالا. كانت كثيرة الظهور على التلفزيون الفرنسي تتلو للشاعر السنغالي ليوبولد سينغور. بالنسبة لي كانت حقا تجسيدا للمرأة الباريسية.
ولعشقي للسينما عشقت آنا كارينا الدنماركية المولد ملهمة المخرج جان-لوك غودار رائد الموجة الجديدة للسينما الفرنسية وبالتالي أصبحت رمزا آخر لباريس، فقد جسدت نوعا من المرأة الباريسية بها سذاجة ودعابة. وأخيرا أثناء الشباب والدراسة اعتنقت أفكار سيمون دو بوفوار ليس فقط لذكائها المتقد ونزعتها النسوية الجسورة، بل أيضا لحسها الأنيق، فمهما ارتدت على رأسها أو جسدها أو قدميها بدت جميلة جمالا بسيطا خاصا. لقد كانت جذابة ببساطة ومتقدة الفكر وهو ما يقصده الكثير من الباريسيات.
قد يكون أول ما يلمحه الشخص من بعد هو جاذبية المرأة الباريسية، ولكن السبب في ذلك هو ثقتها، فهي تعرف ما يناسب جسدها وحجمها لتبدو دائمة الأناقة. وتعود أناقة فكرها إلى استمتاعها بالتحدي، فيجدها الكثيرون لا تقاوَم لحبها للتحرر كثيرا.
المصدر: BBC