الكاتب: د.صائب عريقات
فُجعت جماهير شعبنا الفلسطيني بسماعها نبأ الإتفاق الثلاثي الذي بموجبه ستتم إقامة علاقات طبيعية كاملة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وبين إسرائيل، قوة الإحتلال. نحن الفلسطينيين كما نتمسك بصون استقلالية قرارنا الوطني نحترم في الوقت نفسه حق كل دولة عربية في أن تتخذ قراراتها بنفسها، ولكن هذا لا يجب أن يكون مبرراً للتنصل من الإلتزامات التي يُمليها التضامن العربي والخروج عن قرارات القمم العربية التي اُتخذت بالإجماع وإنتهاك مبادرة السلام العربية التي تشكل إطار الإجماع العربي.
الأمة العربية اليوم أحوج ما تكون إلى الحفاظ على روابط التضامن هذه واحترام ما تمليه من التزامات في مواجهة التحديات الخطيرة التي تحدق بها من كل جانب، ومن أجل وضع حد لحالة التمزق الداخلي والحروب البينية والأهلية والنزاعات الطائفية والمذهبية. والشعب الفلسطيني أحوج ما يكون إلى دعم أشقائه العرب اليوم وهو يواجه مخطط الضم الإسرائيلي الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من رؤية إدارة ترامب المسماة زوراً بصفقة القرن. وليس صحيحاً أن هذا الخطر بات أبعد عن رقابنا بفعل الإعلان الثلاثي أو كجزء منه، فرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يؤكد جهاراً أن مخطط الضم لا زال جزءاً من برنامج حكومته، وتصريحات المسؤولين الأمريكان تؤكد أن تأجيل التنفيذ الرسمي لهذه الخطوة لا يعني التخلي عنها، بل هو إجراء مؤقت يأتي بسبب تضافر عدد من العوامل من بينها الموقف الفلسطيني والعربي الرافض وما خلقه من إجماع دولي على إدانة هذه الخطوة الإسرائيلية بإعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية. وبسبب هذه العقبات التي يصطدم بها مخطط الضم، ترى إدارة ترامب مصلحة لها في إنجاز تقدم على محور آخر من محاور خطتها وهو الذي يدعو إلى إقامة تحالف إقليمي تلعب فيه إسرائيل دوراً محورياً إلى جانب دول عربية من أجل حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. وإدارة ترامب بأمس الحاجة إلى مثل هذا الاختراق وهي على أبواب معركة انتخابية صعبة تهدد بشكل جدي حظوظ رئيسها في ولاية ثانية. ونشهد اليوم كيف يتم استثمار هذا الاتفاق الثلاثي والمحاولات الجارية لتوسيعه كي يضم دولاً عربية أخرى واستغلاله كعنصر رئيسي في سجل إنجازات ترمب التي تروّج لها حملته الإنتخابية. وخطوة التطبيع هذه تلبي أيضاً مصلحة حيوية لرئيس الورزاء الإسرائيلي نتنياهو الذي يواجه معارضة شعبية متنامية وأزمة داخلية محتدمة مع حلفائه في الحكومة، كما يواجه محاكمة قضائية بتهم الفساد. وفضلاً عما تحققه خطوة التطبيع من مكاسب لإسرائيل على مختلف الصعد فهي أيضاً تشكل خشبة إنقاذ لنتنياهو من أزماته المتفاقمة.
هذا مفهوم تماماً، ولكن يتساءل المرء ما هي مصلحة الإمارات العربية المتحدة في الإقدام على مثل هذه الخطوة؟ وبخاصة أن قادة إسرائيل لا يخفون مطامعهم في السيطرة على الثروات العربية من خلال ما يسمى بالتطبيع، وموقفهم إزاء مسألة بيع الأسلحة الأمريكية المتطورة للإمارات يؤشر إلى أن ما يريدونه حقاً هو السيطرة على المنطقة والتحكم بمقدراتها ومدّ نفوذهم خارج حدود فلسطين إلى الفضاء العربي الأوسع. عندما يطالب الشعب الفلسطيني بالالتزام بقرارات القمم العربية فهو بذلك لا يدافع فقط عن حقوقه وعن قضيته وإنما أيضاً عن مصالح ومستقبل الأمة العربية وحمايتها من المطامع الإسرائيلية التوسعية. نحن ندافع عن القدس لأن القدس عاصمة فلسطين الأبدية ولكن أيضاً لأنها ذخر مقدسات العرب والمسلمين، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. والأكذوبة الأمريكية عن أن اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي سيفتح الباب أمام المسلمين للصلاة في القدس تكشف حقيقتها تصريحات كوشنر التي تدعم المخطط الإسرائيلي الخبيث في تغيير الوضع الراهن القانوني والتاريخي والتقسيم المكاني والزماني للأقصى المبارك وتهويده بحجة حرية العبادة فيه لجميع الأديان على غرار ما حصل ويحصل حالياً في الحرم الإبراهيمي. يأتي هذا في سياق تصعيد محموم للحملة الإسرائيلية الهادفة إلى تهويد المدينة المقدسة ومحو هويتها العربية الإسلامية والمسيحية وإلغاء الوجود الفلسطيني فيها، فحكومة نتنياهو لا تكتفي بإبقاء مخطط الضم مدرجاً على جدول أعمالها بل هي تواصل العمل الحثيث من أجل وضعه موضع التنفيذ من خلال فرض الوقائع التوسعية على الأرض، وهي تستهدف منطقة القدس تحديداً كأولوية في هذه المخططات من خلال بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في منطقة "القدس الكبرى" وبخاصة في المشروع الإستيطاني "أي 1" المرشحة قبل غيرها ليتم ضمها رسمياً وتطبيق السيادة الإسرائيلية عليها، والقضاء بالتالي على أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة. ناهيك عن مصادرة الأراضي وعمليات الحفريات المتواصلة لزعزعة أساسات المسجد الأقصى، والتهجير القسري والهدم المتواصل وإجبار المقدسيين على هدم منازلهم بيدهم، وإبعاد المواطنين عن المسجد الأقصى المبارك وعن المدينة، واستدعاء واعتقال شخصياتها الوطنية الرسمية والدينية من الشيوخ والقساوسة، والاعتداء المتواصل على المقدسات المسيحية والإسلامية وعلى قطاعي التعليم والصحة والإعتداء على ممتلكات المواطنين ومصادرتها بالتزامن مع تكثيف الهجمات الإرهابية للمستوطنين وترويع المواطنين الفلسطينيين الآمنين.
كل ذلك في الوقت الذي يزداد فيه منحى الإصابة بفيروس كورونا المستجد داخل القدس ومخيماتها والبلدة القديمة، والتي تمنع خلالها سلطة الإحتلال الطواقم التابعة للأونروا وخدمات وزراة الصحة الفلسطينية من الوصول إلى منتفعيها. بالتزامن مع الهجمة المسعورة على وكالة الأونروا ومحاولات إغلاق مرافقها وطرد مؤسساتها من المدينة انسجاماً مع خطة ترمب تصفية الأونروا وحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقبل بدولة وهمية مقطعة الأوصال ترتبط معازلها بعضها ببعض عبر الجسور والأنفاق، وتخضع للسيطرة والهيمنة الإسرائيلية المتواصلة على معابرها وحدودها وأجوائها ومواردها، فدولة كتلك التي تنص عليها خطة ترامب هي ليست أكثر من بانتوستان شبيه بتلك التي كانت قائمة في ظل نظام بروتوريا العنصري في جنوب أفريقيا. ونحن لم نقاتل قرناً كاملاً من الزمان من أجل أن نصبح رعايا لنظام تمييز عنصري في ظل إسرائيل الكبرى. فلا يمكن أن يكون ثمة سلام وإستقرار في المنطقة إلا بإنجاز استقلال دولة فلسطين في حدود الرابع من حزيران 1967 بعاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية والشعب الفلسطيني سيواصل النضال من أجل هذا الهدف مهما تكن الصعوبات.
نحن لا نريد من أخوتنا العرب دعماً يفوق طاقتهم، نريد منهم أن يتمسكوا بالمبادرة التي أجمعوا عليها، وأن ينفذوا قرارات القمم العربية المتوالية، بما في ذلك القرارات المتعلقة بشبكة الأمان المالية لدولة فلسطين. فمنذ مطلع العام 2020 والوضع الاقتصادي والإنساني يشتد صعوبة وقساوة على الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة الذي يعاني سكانه معاناة مضاعفة بفعل الحصار الإسرائيلي غير القانوني والوضع الاقتصادي المزري وإنتشار وباء كوفيد 19. هذا في الوقت الذي أوقفت فيه معظم الدول العربية تسديد التزاماتها بدعم الموازنة الفلسطينية كما هي مقررة في القمم العربية المتعاقبة، ناهيكم عن تنصلها من الوفاء بتعهد شبكة الأمان وفقاً لقرارات تلك القمم، وفي ظلّ ظرف مالي قاهر تمارس فيه إسرائيل الابتزاز الرخيص لأموال المقاصة، وتوقف فيه الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة المساعدات عن وكالة الأونروا.
نحن نتوجه إلى الاجتماع القادم لمجلس وزراء الجامعة العربية وكلنا أمل بأن يتخذ القرارات التي تكفل سدّ الثغرة التي أحدثها إتفاق التطبيع الإسرائيلي الإماراتي، وتجديد الإلتزام بمبادرة السلام العربية، وبقرارات القمم العربية وآخرها قمتا الظهران وتونس. إننا ننظر بإرتياح إلى المواقف التي أعلنت عنها العديد من الدول العربية بتأكيد إلتزامها بمباردة السلام العربية وبخاصة ما صدر عن أشقائنا في المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والحكومة المغربية والحكومة السودانية والجزائر الشقيقة والكويت وقطر وغيرها من الدول التي صدّت الضغوط الأمريكية الهادفة إلى فتح السبل أمام مسلسل التطبيع. هذا الموقف يشكل مدخلاً للردّ على تفوهات نتنياهو الذي اعتبر بموجبها أن انضمام الدول العربية إلى مسيرة التطبيع ستثبت للفلسطينيين أنهم على خطأ، ونحن نؤكد لنتنياهو أن الشعوب العربية لن تسمح بهذا الإنضمام المخزي كما أن لا قوة على الأرض يمكن أن تقنع الشعب الفلسطيني أنه على خطأ بإصراره على الصمود ومواصلة النضال من أجل حقوقه في تقرير المصير والاستقلال والحرية وعودة اللاجئين.
نحن ندرك أن علينا واجباً لتعزيز هذا الصمود وتزخيم صورة هذا النضال من خلال الخلاص من الانقسام المعيب الذي عانته حركتنا الوطنية طيلة الأعوام الماضية، ونحن اليوم نتخذ الخطوات التي نأمل أن تفضي إلى إسدال ستار الختام على هذه المأساة من خلال لقاء القيادة الفلسطينية الذي شارك فيه الأمناء العامون كافة لجميع الفصائل الفلسطينية بقيادة السيد الرئيس محمود عباس، والذي سيفتتح عملية حوار وطني معمق يهدف إلى البناء على وحدة الموقف ضد الضم والتطبيع من خلال بلورة إستراتيجية وطنية موحدة وأسس تنظيمية لشراكة الجميع في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني التي لا بديل لها ولا قيادة موازية لقيادتها.
فُجعت أنا شخصياً بمشهد الطائرة الإسرائيلية تحطّ على أرض مطار أبو ظبي وهي تحمل إلى جانب الشعار الزائف عن السلام اسمها الاستيطاني الاستعماري "كريات جات". "كريات جات" هي مستوطنة أقيمت على أنقاض عراق المنشية والفالوجة التي افتتح صمودها في حصار القائد القومي جمال عبد الناصر فصلاً جديداً مشرقاً في التاريخ العربي. فُجعت لأنني مثل كل أبناء شعبي من اللاجئين الفلسطينيين لا زلنا نعيش مأساة النكبة وتداعياتها السياسية والإنسانية حتى هذه اللحظة، وأقول لكم بوضوح لن تجدوا فلسطينياً واحداً يفرّط بهذه الحقوق الإساسية: تقرير المصير والاستقلال والعودة. ومهما تكن مؤامرات الأعداء فإن قافلة النضال الفلسطيني ستبقى تسير رافعة رايتها المظفرة وصولاً إلى فجر الاستقلال.