الجمعة: 27/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

ما نَطَقَ به الرّائي ؛ سنعود

نشر بتاريخ: 09/09/2020 ( آخر تحديث: 09/09/2020 الساعة: 16:49 )
ما نَطَقَ به الرّائي ؛ سنعود

المتوكل طه



ستنتظرُ النافذةُ الشرقيةُ قَرْناً حتى تنفتح على الزغاريد. وعندها ستكون بداية الحصاد الوفير، الذي سيتيح للمنجل أن يخلّص السنابلَ من الهالوك الذي امتصَّ نسغَ الأرض.

وإن سقوط المقدّسة إيذاناً بسقوط الحواضر الباذخة، التي سيفترعها التتار البِيْض. وسيُهزَمون، مرّةً أخرى، على أبواب مدينة العِزّة، ثم تكون كرَّةً أُخرى لعين جالوت.

وستشهدون أندلساً أُخرى، ستكون ممالكُ وطوائفُ ودُويلاتٌ وطَحْنٌ ساخنٌ وعداءٌ فاجرٌ، وسينشَقُّ الهلال، وتتعَمَّقُ الفتنةُ أو تعود.

وسيحتلّون نصفَ المِحراب، ويحرقون المنبر، ويُمطِرون السُّجودَ بالثاقبِ المجنون، ويرفعون الشمعدانَ على معابد الخراب.. ونيأس، كالعادة، أو نتطامن مع المنافق الذي أبْدَلَ المشهدَ وادّعى أنّ عباءتنا المُمزّقة تتّسع للألوان!

***

وعندما يرفع كلٌ منكم عقيرَتَهُ سيكون قاتلاً وإن كان قتيلاً. واعلموا أن مرافعةَ كلّ واحدٍ فيكم تؤكد أنه قد وَلَغَ وأوغَلَ وتجاوَزَ كلَّ حرامٍ. وإلّا ماذا يعني أن تتحاكموا في غرفة الاتّهام، ويكون واحدكم مثل ثانيكم؛ القاضي والحاكم والجلّاد؟!

ومَنْ سكب الماءَ على النار وأطفأها، هو نفسه الذي يتباكى على رمادها!

وسيعترضون النهرَ العظيم، وسيعملون على تجفيف ينابيعه، أو الذهاب بها إلى المهاوي والمجهول.. وسيقولون؛ سيعطش النهر، انتظروا. فلا تنتظروا لأن النهر باطشٌ، ستستيقظ تماسيحُهُ وستسحلُ حتى تأكل وجْهَ الدّاعي إلى اليباب.

والصّياد الذي ستُجْمِعون على قدرته الفائقة على التقاط الأسماك من البحر، سيأتيكم بقُفَّتِهِ المليئة بالحيّات.

وسيصبح الوَهْمُ هواءكم الفاسد، الذي يملأ صدوركم، وحرفَكم الذي تتشدّقون به على المنابر، وحجَارتكم التي ترمونها على أعدائكم.. فتَشُجّ رؤوسكم.

***

ولن يرفع أحدُ المتحاربين المصحفَ على الرمح، لأنهم مزّقوه وأوقدوا بأوراقه الحرائق، وأغرقوا ما تبقّى من صفحاته بالدماء.. وهو البريءُ من الضلالات والفظاعات والقتلة، الذين أعفوا لِحاهم، ليدّعوا أنهم الأئمّة الوارثون، وما هم إلّا مأجورٌ ومأفونٌ، يتمثَّلُ دَوْرَ الوليّ وهو الشيطان الرجيم.

ولن يُفَجِّر الأحفادُ الحجارةَ بعبقريةٍ في شارع أبناء الملك، يوم ختانه وختان مُجايليه، لكنهم سيُفاجئونهم وهُمْ على صهوات البولاد والبارود، وسيتقهقرون أمام المقاليع وأسرار الحكاية الساخنة. لكنَّ أولادي سيخذِلون الأحفادَ، وسيأخذون دمَهم في عبوّاتٍ يرصفونها على رفوف البيع، ليُقايضوا بها الدخلاءَ مقابل أن يعودوا وحدهم.. دون الباقين! وحدهم.. أذلّاء، رغم الشارات والرموز واللافتات والبِساط الأحمر.. والسلام الجنائزي الوطني.

وستلبسون ثياباً ليست لأبدانكم، وستحملون هويّةً لا تحمل ملامحكم، وستدافعون عن مقولاتٍ ليست لكم. وستغيب رائحةُ المقاثي في صيف العقود الآتية، وسينبت مكانها العمى والقيود، وتنتشر رائحةُ الملح من فَخِذَيْ المُجَنَّدة الصهباء، التي ستحكم بقبضتها على عُنق كبير السَحرة، الذي لم يؤمن بعدُ بالعصا المتحوّلة.

وأتمنّى ألّا يرفعوا الغصن! لأنهم حرقوا الزيتون، ولأننا سنجعله سوطاً نُدْمي به ظهور أولادنا.. ولن يُرفرف الحَمامُ فوقنا.

وسيُبَدّلون أصحابَ النياشين، كما يحلو لهم، وستمتدّ الآلام إلى أن تتجاوز طريق ابن مريم.. بمحطّاتٍ لا يُمْكِنُ عدُّها.
وستبرز النتوءاتُ المشتعلةُ غضباً، على امتداد الخريطة، لكنهم سيعملون على إعادة إنتاج المُكرّسين لخدمتهم، مرّةً أخرى، وسيُلَوّثون الألحانَ والمراقد وليالي الصُوفيّين الشهداء، وسيمتلئ الموج بجثث الصغار والغرباء الباكين، الذين ماتوا قبل أن يُقتَلوا.

***

وستنفتحُ القلاعُ الطازجةُ اللامعةُ الساقطةُ أمام الغريب، الرّاطن بالأغيارِ وطوطم الفناء. سيتحدّثون بلغتِهِ المُلفَّقَة، وسيُنجبون عبيداً آخرين، يُحيون بهم ليالي السِّفاح. وستُمْطِرُ عيون الجامع دماً، وسيخفق جناح البُراق غضباً فوق الحائط الذي سرقوه، وباركنا لهم به، ضعفاً وضعفاً.

وإنها رقعةُ شطرنجٍ سيموت فوقها الجنودُ، وتتناثر القلاع، ولن ينجو الملك.

سيتبدّد البيدق الذي كان يحمي الفيَلة، إلى أن تبدو رقعة المربّعات باهتةً مثل ثوبٍ رَثٍّ قديم.

وسيهدر قارحُ الأعمام ويتنافخون، وسيرسلون المساكينَ ليرُدُّوا الطوفان. سيعود بعضهم مليئاً بالوحل، وسيبقى القليلُ منهم تحت شواهدَ موزّعةٍ بين الأعشاب الهائشة.

وستكون المئذنةُ مدخنةً للفحم، والمصطبةُ منصةً للراقصة المترخّصة، والقوسُ خزانةً لزجاجات النبيذ، والحوضُ موقداً للشّواء.. وتتكرّر الصورةُ، فنمرُّ عليها كأنها في بلادٍ لا نعرفها.

وسنعرف أنهم يُسَمّمون آبارنا، ويحرقون أشجارنا ويخلعونها عن عَرْشها الأبديّ، ويُشعلون حليب أطفالنا، ويسجنون أولياءنا، ويُقيمون الأسوار ذات العيون حولنا، وسيهدمون سقوفنا، ويدفعوننا لنحفر قبورنا بمعاولنا، وننسج أكفاننا بأيدينا، وسيجزّون قمحنا، ويسهرون حول حابون الحِلْبة والشَعير على قمر بيادِرنا، وسيلبسون قمصاننا، ويأكلون عَشاءنا، ويشربون زمزم غيثنا، ويمنعون مناديلنا من البكاء والغناء، وسيأتون بالأرذل ليتحكّم في رقابنا، ويَحوُلُون دون سجودنا وقيامنا، وسيجوع الطير على جبالنا، وتخِرُّ ثمار غصوننا، وسيظمأ الصخرُ بين أيدينا، وسنبكي حتى لا نجد الدمع.. ومع هذا سنفتح لهم بوّاباتنا وندعو لهم بأن يدخلوها آمنين.

والقريةُ التي عَقَدت هدنةً مع العصابات.. ساذجة! لقد اطمأنّت لِوَعْدِ كبيرهم اللقيط، وهو يحلف بِشَرَفِ أُمّهِ الزّانية.

وسيبقى المأتم مفتوحاً مثل أشداق القِرْش، حتى نملَّ الحياة، وستتساوى ضجعة البرزخ مع النّضَارةِ المفقودة. وربما تشفع النِّصال، على فرديّتها، والمراكب الهائجة، على قِلَّتِها، وكلمة الحقّ، على خجلها، وصرخة الحُرّ،على تطامنها، وأغنية الحنين على بُعدها وغربتها.. وسيقف المبغوضُ الذي سيبيعهم كلَّ شيءٍ بالمجّان، ليقدّس المذلّة، ويبرّر المهانة، ويُسَوِّق الصَغار والعَار والشَنار، وسيستلّ روحَ الجَمرة من صَحْنها، وسيمنع السامر من أن يُشْعِلَ الليل بالنجوم والدبكات الذابحة والأغاني التي تَرُجُّ الحيطان. وستفرحون يوم جحيمِهِ، وتكتشفون أن جِذْرَهُ متّصلٌ بأُمّهم البغيّ، وأنَّ لسانه عجاج، أعشى به العيون، ودجّن الأنذال من حوله، وأخرس عُصْبَةَ القراصنة الذين تقاسموا الفُتات، من تحت أقدامه.

وطوبى لمَنْ ظلّ تحت الغزالة، لتغسله بلَفْحها، وتُفَتِّح مسامات بدنه، ليخرج الغليان، ويتطهّر من ثلج القطران، ويفوح بالرُمّان.

***

ولن يبكي أبو عبد الله الصغير مُلْكاً مُضاعاً، لأنه لا مُلْكَ له! إنما سرابٌ سيحمله من قاعة قمارش، التي احتلّوها وزيّنوها بالنجوم السداسية، إلى أندراش، ثم سيطردونه، ثانيةً منها، ليتوسَّلَ إلى الوالي في فاس، لكنه، هذه المرّة، لن يقرأ رسالة المكسور، لأنه لا يتقن العربية، ولا يعترف بالرجاء والشفاعة والتذلّل الوضيع.

وستحلّ المَظْلَمةُ الدمويةُ كأنها كوكبٌ حارقٌ مارقٌ حَطَّ على غير هُدىً، سيقلِبُ كلَّ شيءٍ رأساً على عقب، ويكسر المحراث الذي بقروا بطن صاحبه، ويشعلون العدمَ في الجدران والحقول.

وسيبقى، على الساحلِ، صوتٌ صلبٌ يُدَوِّي بالضادِ، رغم السَلْخ والجوع ومطاردة الضباع.

وستكونون في خرائبَ بائسةٍ تحت بساطير إبليس الذي عقد هدنةً مع الشيطان. ستمرع الداليةُ التي تجمع تحت عناقيدها الحمراء أغانيكم وحنينَكم الجارف.. لكنكم ستقطعون جِذعَ الكَرْمة وتوزّعون قناديلها في الهواء المالح.

وسيتّفق تُجّار قريش على إنفاذ الصفقة، باسم الثاكل والعنب المهروس والقِباب وبيّارات البحر. سيُشاركون -عن بُعْدٍ- بالصمت المريب ابتداءً، ويمدّون الأياديَ للأفاعي.. إلى أن تكونوا جزءاً من أفق السقوط الممتدّ من اتفاقية المُتلَجْلِج إلى أمير خيبر.

وستكونون عرايا دون حشمةٍ وبراءةٍ، وستندفعون، بفعل بساطير الرصاص وأقلام المأجورين، نحو تعميق التشقّقات حتى تقعوا في بطونها، لتكتشفوا أنها أفاعٍ دهريَّة، لها ألفُ رأسٍ، ستهضمكم في جوفها، ولن يشفع حينها دعاءُ ذي النون، لأنكم نسيتم الكلمات، وستخبطون بعضكم بعضاً حتى تتفانوا، ولن تتدافَنوا.

وستكمن تحت أرضكم نارٌ ذات لظىً، يختزنها البسطاء، على مدار عقودٍ ثقيلةٍ من العذاب المقطَّر الرهيب، وتكونون جميعاً، تحت سِنّ المقصَلة التي شحذتموها برقابكم، ونافحتم عن سَيّافها. وستشهدون لحظةً تحملون فيها النَّصْل وستقطعون شرايينكم بأيديكم، وستذهبون تحت الرّحى، لتُخْرِجوا غُباراً يبكي البلاد التي ضيعتموها باصطفافاتكم المنهارة، وستكونون رَهْن مصالح المُرابي. ولن تعودوا تماماً!

***

ولعلّ قعقعة السلاح تتصادى من صِفّين، غير أن القادمين أفادوا بأنّ الساحرة تجلخ لهم السيوف وتُعطيها بأثمانٍ باهظةٍ للطرفين.. وهما يشكرانها على سخائها المجيد.

وسيكون السَّيّد الرابض على ملايين الجماجم، الشارب ماءً أسْوَدَ من آبارنا.. يتسيَّد، فيضع قَدَماً له في المحيط، وأُخرى في الخليج، وسيعبث بالصورة، ويُعيد تركيبها، كما يحلو له! سيفطن إلى أن الناس ذاهبون إلى خَيارٍ عَلِمُوه، فسيسبقهم، وسيفتح لهم درباً لا نهاية له، وسيأتي بعبيده وإمائه من الرجال، ويراقصهم مثل عرائس المهرجان.

سيُعطي لهم الحلَّ الأوّل والثاني والبديل، لكنّ البيوت لن تضيع في الرمال، ولن تُذَوِّب ما تبقّى لها من ذَهَبٍ للخُوار الأصفر.

وسيُخرِجون الفهدَ الغاضبَ من الغابة العارية، ويَدُبُّونَ اللهبَ في فراء أجداده المتعبين تحت التراب.

ولن تفرّقوا بين الخاشع والبائع، وسيجلس على الكرسيّ ابنُ مَنْ سَرَقَ النحاسَ من المسدّس، وجعله لعبةً مُضحكةً للتندُّر! وسيتنكّر منها الأحفاد، ويتّهمون بها صغار المشرَّدين.

وسيغضب البحرُ من الذين ركبوه ليَخْرُجوا من الحياة، فهو الذي كان يزورهم في الليل ويطمئنّ على أحلامهم، وجَعَلَ نساءهم يحبَلْنَ بالموج الذي يصطخب في بطونهنّ، بعدما غَمَسْنَ أرجلهنّ في ماء الشاطئ، وكاد أن يفقد ملوحته.. لحلاوة الأصابع وطلاوة الشمع الطريّ!

***

لقد هَجَرَتْنا الأغنيةُ العميقةُ الخضراءُ، التي غطّت الأرضَ والسماءَ، ولم يعد شرياني يتّسع للمجرّات والغابات، فوجدتني مثلك في قبو المذلّة أنوء بالدم والحرائق والعويل، وأشهد، رغماً عنّي، على تزييف الحجارة والأشجار، إلى أن تتّشحَ الأمهاتُ والقناطرُ بالسواد، وتمتلئ الحقولُ بالجماجم والمُشَوَّهين، وقد اقتربنا من خسارة الجولة الكبيرة. لقد صافح أبونا سارقَ الأرض.. وعانقه، ولن نعود إلى الدار.. قريباً، لكنّنا سنعود.