الكاتب: السفير منجد صالح
هل الشعر حقا غذاء للروح؟
هل الشعر فعلا دواء للجسد؟
هل الشعر والموسيقى، معا، بلسم لبعض جراحاتنا العتيقة والطارئة؟
ربما، وربما أكثر وأكثر.
فاجأني فرحا وإستغرابا، قبل يومين، الصديق الشاعر جمعة الرفاعي بأن بعث لي بطاقة دعوة، عبر الواتس آب، يدعوني من خلالها لحضور أمسية شعرية يقوم بتطريز خيوطها وحياكة ردائها الصيفي، ليُلقيها في حديقة، تحت أولى طلّات رذاذ أشعة القمر.
الدعوة أنيقة بلونها الأصفر البرتقالي، وكأنّها تجمع جمال برتقال وليمون يافا في سلّة واحدة من القش، الذي ينبت على ضفاف وديان فلسطين، خلال مواسم الشتاء الماطرة.
يتصدّر الدعوة "ترويسة" باللغتين العربية والإنجليزية: مركز خليل السكاكيني الثقافي.
تحتها مباشرة تُغازل العين أربع صور لأربعة شباب تقرأ تحتها من اليمين إلى الشمال: شعر جمعة الرفاعي، كلارينيت نديم فارس، إيقاع حسين أبو الرب، عود ميدو كحلة.
تحتهم شريط بلون بنفسجي (باذنجاني) يخترق قلب الدعوة من الوريد إلى الوريد بصورة أفقية وبشكل مستطيل، طويلُ ضلع الطول قصيرُ ضلع العرض، تتوسّطه عبارة: "أمسية نفس (بفتح النون والفاء) شعر وموسيقى".
تحت المستطيل البنفسجي تقرأ: "أنا لست شاعرا صغيرا أو كبيرا، أنا مرافق المُفردات المريضة في طريقها إلى العيادات، كلّما زاد بها الألم أسندُها، ليبقى المعنى سالما وصحيحا".
وتذيلت الدعوة في أسفلها على اليسار "بلطشة" دهان بيضاء اللون غُرس في بياضها: "الإثنين 14-9-2020 الساعة 6:30 حديقة مركز خليل السكاكيني الثقافي".
إنتهى نص الدعوة.
أرخى المساء سدوله، ما زالت أوراق الأشجار تئن تحت وطأة حرارة يوم آخر من موجة الحرّ التي تجتاح فلسطين منذ أيام، تصل إلى 45 درجة مئوية.
حتى في المساء وأوّل الليل نبحث "بالخيط والإبرة" عن نسمة شاردة كي نستظلّ "ببرودتها"، لكن لا نجدها.
يبدو أن نسيم رام الله، المصيف بإمتياز، قد أخذ، هو الآخر، إجازة خلال أيام القيظ هذه.
وهكذا يتراكم على العباد وطأة الكورونا ووطأة القيظ ووطأة الإحتلال والضم وتوقيع التطبيع غدا، في حديقة البيت الأبيض، التي لا نرى منها نحن غير السواد، بين نتنياهو ووفد الإمارت العربية، الذي يرأسه وزير الخارجية.
سيوقعان تطبيعا و"سلاما" بالأحرف الأولى ونقاط الدم الثانية والثالثة، النازفة من أحشاء فتاة فلسطينية شابة، إخترقها رصاص الجندي المُتغطرس المتمترس في برجه عاليا ما بين الأرض والسماء على أحد الجواجز، فيُرديها صريعة، شهيدة، دون سبب يُعرف أو يذكر إلا أنه لاحظ على ثوبها رسم حبة برتقال مكتوب تحتها كلمة بلغة الضاد، تبدأ بحرف الفاء وتنتهي بحرف النون.
هل تستطيع أمسية شعرية غنائية أن تُخفف عنّا بعضا من وطآتنا المجتمعة المُتراكمة الحثيثة؟
وهل تستطيع أن تُناجي النسيم الساكن وتستفزّه حتى يتحرّك قليلا ويلفح مُحيّانا كنسمة الجنوب على مُحيّا المحبوب؟
ربما، وربما أكثر وأكثر.
في الحديقة المُعتّقة بقدر "عتاقة" وعراقة مبنى السكاكيني، تناثرت الكراسي البلاستيكية بنية اللون، تحت الأشجار، التي تُنافس المبنى في "عتاقته"، بفوضى وبشيء من الترتيب الذي يحافظ على البعد والتباعد بين كرسي وآخر وبين صف وآخر.
وبالتالي بين حاضر وبين آخر أو آخرى من الجمهور، المُتحفّز المُتعطّش لشُربة شعر زلال يُطفئ بها وفيها ظمأه الممتد على مدى شهور بفعل الجائحة والإحتلال والحر المُنضم حديثا إلى قائمة "الأملاح" التي تضاعف من العطش والحرمان.
بدأ الحفل، الإحتفال، ب "طقطوقة" موسيقة تراثية عربية بديعة يتناغم فيها ويتعانق العود مع الطبل مع الكلارينيت. العود يعلو صوته ويطغى، يتبعه الطبل بهمة ونشاط ليدركه ويسير جنبه. أما الكلارينيت (الفلاوتا) فيدسّ حفيفه بين العود والطبل مُعلنا حضوره.
ويشدو الشاعر جمعة، من ديوانه تحت الطباعة، بعنوان "وإذ رأى نارا":
"أبحث عن حكمتي في جذوع الأشجار
أتمسّك بما سوف يرحل بعد قليل
لأنه لن يتكرّر
أقبض على عنق السياج لتخرج الطيور من جوفه
ثمّ أرسم تمثال آخر الليل من رمل وحصى قائلا:
هذا سهل التحطيم
أتمدّد تحت طيور السياج التي حلّقت بعيدا فوق امرأة
إمرأة تغسل ثيابها بمسحوق من شهور قاسية
وأردّد قبل إنبلاج الفجر
سأبتليك أيّها النهار البطيء بالنرجس والفضة والشياطين".
وتتنافس الموسيقى الصادحة الهادئة، في وصلة ثانية، وتتناغم مع شدو الشاعر، فيخال لك أنهم، الثلاثة، يقرضون شعرا بأناملهم وأفواههم، وأن الشاعر يعزف لحنا بلسانه وحركات يديه وتورّد أوداجه وتوهّج بريق عينيه.
ويعزف الشاعر جمعة على قيثارة الشعر فيشدو:
" الآن أو غدا
ستأتي اللحظة التي تشعر فيها بتفاهة الأشياء
الأشياء كلّها
ستسمّي المدينة سؤالا والقصف إجابة
ستسمي الخراب حُبا والترميم دفنا
الأشجار مناحات والحفيف جنازة
ثُمّ تُراودك نفسك أن تكسر كلّ مصابيح العالم
المصابيح التي في الشارع
المصابيح التي في البيت
وكل ضوء حجب العتمة
لأنّك ترغب أن ترى".
لقد استطاع الشاعر بعزفه والموسيقيّون الثلاثة بإلقائهم أن يُفرحونا، فقليل من الفرح يُزيل عنّا بعض الهمّ المُتراكم فينا وعلى جنبات شوارعنا وحوارينا وساحاتنا.
ساعة واحدة من الشعر والموسيقى أنستنا، ولو للحظة، جبلا من الحواجز والمعيقات وغدر الأيام وخنجر الشقيق.
* كاتب ودبلوماسي فلسطيني