بقلم: د. صبري صيدم
فلسطين.. فلسطين.. فلسطين.. الحجة الأقصر لحروبنا في العالم العربي، إذ لا أذكر أن حرباُ عربية قد شنت في التاريخ المعاصر، إلا واستخدم أربابها فلسطين لتبرير مغامراتهم، حتى إن كانت معدة لغزو تشاد، أو احتلال صنعاء، أو مهاجمة الخرطوم أو حتى انقلابات نواكشوط.
من نهر السنغال وحتى دجلة والفرات، فلسطين القاسم المشترك لاستثارة المشاعر، وإشعال العواطف وإلهاب العروق. فلسطين، النار المستعرة في فؤاد الشارع العربي، والسيف المسلول دائماً وأبداً في خاصرته ووجدانه.
باسمها شهدنا الحروب والمعارك، والقصف والبطش والانقلاب، والاقتتال والإعدام والاغتيال، والاحتيال والرفع والكسر والنصب، وصولاً إلى الضم.
من أجلها ولدت الخطط والتفاهمات والمبادئ، والاحتفالات والانتصارات، وحتى الصفقات، ومعها رحل زعماء وحل زعماء كثر، حتى بات من الندرة بمكان أن نجد حدثاً سياسياً أو انتخابياً لم تكن فلسطين في قلبه.
الشرف والعزة والفخار والهوان والإباء والرجاء والهناء، وحتى الغلاء كانت فلسطين فيها السبب، أو هكذا قيل لعقود جعلت من قضية العرب شمّاعة الحجج الأكثر قبولاً وتقبلاً.
ناهيكم من جيوش العالم العربي، من سفن وطائرات ودبابات وعتاد، ومروحيات وصواريخ وقنابل، جرى تجريبها علينا قبل بيعها إلينا، حتى بات تجار السلاح ينتظرون وصول المتسوق العربي إلى معارضهم، حتى يطمئنوا لوفرة البيع وجزالة الدخل، بل إن عدد الزوار العرب من التجار لتلك المعارض بات الأعلى من بين تجار العالم، وهو ما شجع العارضين على القيام بحجز أجنحة وغرف فندقية فاخرة لضيوفهم العرب سلفاً، لحضهم على شراء السلاح الذي رأيناه لاحقاً ملمعاً ملوناً في عواصم وسموات العروبة، ومحاطاً بجيوش مجوقلة ومؤللة وراجلة، لاستعراض ذلك السلاح الذي قيل بأنه جهز لتحرير فلسطين، لنراه لاحقاً في ساحات القمع والبطش والتنكيل.
أما خطابات التفاخر والاستعراض فلم تخلُ في معظمها من الحديث عن فلسطين، لإلهاب المشاعر، وشدّ الجماهير، وحصد الدعم والتأييد. أما المرشحون وفي أي انتخابات بلدية أو أهلية أو برلمانية، فإن فلسطين كانت وما زالت مادتهم الدسمة للأغراض والأهداف ذاتها.
ومع استعراض المداخلات البرلمانية العربية، التي تلقى رواجاً وانتشاراً على صفحات الإعلام الاجتماعي، فإن سر شعبيتها جاء، إما لارتباطها بفلسطين أو لوصولها لحلقات العراك الشفوي أو اليدوي. ومع فلسطين طبعاً ثارت المشاعر التي صاحبت الوعود التاريخية بقرب التحرير، والتي واكبتها خطب رنانة ووعودٌ نارية وهمية غصت بها إذاعات العالم العربي، كتلك التي ألهبت أحاسيس من سبقونا في حرب يونيو/حزيران عام 1967 وحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 وتصريحاتٍ سابقةٍ مزلزلة هددت بحرق نصف إسرائيل، أو ما بعد بعد حيفا، ناهيكم عن قائمة لا تنتهي من الثبور والوعيد، الذي اعتقدنا معه بأن جيوش العرب ستعود لتغسل وجوه مقاتليها في بحيرة طبرية، ومياه المتوسط والقائمة تطول من مواقع يحاول نتنياهو شطبها من وجداننا.
ولا أنسى طبعاً خطابات القمم العربية والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز، والأمم المتحدة والقائمة تطول من زعماء تبؤوا منصات تلك المنابر والمؤسسات، فكانت فلسطين الحاضر الأهم في ما قالوه. سمعناهم جميعاً عندما هددوا دولة الاحتلال، ورأينا معظمهم عندما صمتوا لصالح دولة الاحتلال. رأيناهم في النهار عندما بدت الحرقة تأكل صدورهم وعدنا لنراهم عندما أحرقوا وجودهم بالصمت أو بالغياب، عن جلسات مفصلية، خاصة مع تغوّل المصارع الأمريكي الجديد، الذي قلع ربطة العنق ونزل بسرواله القصير وقفازاته الملتهبة ليهدد عروش المتباطئين في الإذعان لدولة الصهاينة.
المفارقة أن فلسطين النار والبركان والزلزال والثورة والحرب والمعركة والصاروخ عادت اليوم لتذكر في الجولات المستحدثة للتطبيع كحجة لتبرير الهوان والتهاون، بما يعني أن فلسطين الحجة التقليدية للحرب هي الفلسطين ذاتها التي يقول البعض اليوم بأنه يطبع لأجلها، الغريب في الأمر أن أصحاب التطبيع تناسوا أن يسألوا أهل فلسطين عن رأيهم في الأمر.. وعليه تكون قضية فلسطين كاملة الدسم.. مفيدة في العنتريات ومفيدة أيضاً في التخاذل!