بقلم: د. صبري صيدم
كم من وباء حلّ بالأمم عبر التاريخ؟
وكم من ملايين البشر قضوا نتيجة الأوبئة على اختلافها؟ ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ يوماً، أن الطاعون، على سبيل المثال، كان مؤامرة، أو أن الكوليرا مسرحية، لكننا اليوم، وفي ظل احتدام الاستقطاب السياسي العالمي، بات الكثيرون يصفون أحدث الأوبئة في حاضرنا بالمؤامرة، وبذلك يقابَل بالاستهتار واللامبالاة، حتى أن وجود الكمامة على وجهك، يعتبر بمثابة الشرارة التي تدفع الكثيرين إلى الدخول في نقاشات واختلافات، هنا وهناك.
لقد فاجأ (كوفيد ـ 19) البشرية جمعاء نهاية العام الماضي، وبدايات العام الحالي، مُسرعاً في انتشاره بين الدول والمدن، محدثاً الخوف والتوجس في أحياء وبيوت العالم بأسره.
لقد ظن البعض في بدايات الانتشار، أنهم بعيدون عن الإصابة بالفيروس، وأن ذلك يحدث بعيداً عنهم، إلى أن باغتهم في مواقع عملهم، أو في بيوتهم أو مناسباتهم، جراء احتكاكهم بالناس والمقربين وبات أقرب، لقد أصبح مقيماً في بيت الجار، وفي كل مكان يمكن أن نرتاده، كما أنه ينتظر ضحاياه اللامبالين، الذين لا يكترثون بالأخذ بأسباب الوقاية، التي أكدت عليها كل جهات الاختصاص في العالم.
في البدايات؛ وتحديداً في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير الماضي، رصد العالم ألفاً وسبعمئة وخمسين إصابة بالفيروس، حيث بدأ انتشاره بالتسارع وسط ذهول العالم وحيرته في كيفية التعامل مع وباء كهذا، إلى أن استقرت نصائح المختصين على ضرورة الإغلاق، خاصة في شهري نيسان/إبريل وأيار/مايو، اللذين شهدا أعلى مستوى للوفيات حتى الآن، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منحنى الإصابات لفترة معينة، ليذهب باتجاه التسطح مع تنامي فعالية الإغلاق العام.
ومع ذلك الإغلاق، بدأت عجلة الاقتصاد في أنحاء العالم بالانتكاس، بدرجات مذهلة من جهة، كما اطمأنت دول كثيرة إلى درجةٍ دعتْها إلى رفع الإغلاق من جهة أخرى، والعودة لإنعاش اقتصادها..
وبذلك أعادت قرارات الدول بهذا الخصوص ذاتها إلى المربع الأول؛ إذ تصاعدت أعداد الإصابات من جديد، ولكنها قوبلت هذه المرة بتغليب الاقتصاد على صحة البشرية، وبالاستهتار واللامسؤولية، ليس تجاه الآخر، وإنما بلغ الأمر لامبالاة البعض بأنفسهم.
وفي العشرين من مايو، بلغ عدد المصابين في العالم حوالي خمسة ملايين شخص، وأكثر من ثلاثمئة وثلاثين ألف حالة وفاة. ومع رفع الإغلاق في معظم أنحاء البلدان، وخلال خمسة أسابيع تضاعف عدد المصابين، وتجاوت حصيلة الوفيات نصف مليون شخص.
وما أن مرّت خمسة أسابيع أخرى، حتى تضاعف عدد المصابين مرة أخرى، متجاوزاً العشرين مليون إصابة، فيما بلغ عدد حالات الوفاة إلى ثلاثة أرباع مليون شخص.
وفي مطلع أيلول/سبتمبر بلغ عدد الإصابات ستة وعشرين مليون شخص، فيما بلغ عدد الوفيات أكثر من ثمانمئة وسبعين ألف حالة وفاة، وفي سبتمبر وحده أصيب حوالي عشرة آلاف شخص بالفيروس، فيما توفي حوالي ربع مليون شخص.
هذه المؤشرات إن دلت، فإنما تدل على تفاقم الوباء واستفحاله في البشرية، فقد رأينا كيف أن أوروبا عادت للإغلاق من جديد، وكيف أن دولاً مثل الهند والبرازيل سجلت أرقاماً مذهلة في الإصابات والوفيات، بالإضافة إلى اتخاذ العديد من الدول إجراءات مشددة في إغلاق حدودها، وتشديد القيود على السلوك الإنساني بأنماطه كافة. كما أن بعض المناطق اضطرت للعودة إلى الإغلاق الشامل، نتيجة اجتياح موجة ثانية لها، كما هي الحال في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ومع استمرار الاستهتار البشري بمدى خطورة الوباء على الناس، وعدم الوثوق حتى يومنا هذا بإمكانية توفر لقاح يقي البشرية شر ما هو مقبل، خاصة مع دخول فصلي الخريف والشتاء معظم أرجاء المعمورة، فإننا نرى أن ما يتخذ من تدابير حول العالم، وفي حال بقائها على ما هي عليه، إنما سيقود البشرية إلى كارثة محققة، عبر إصابة غالبية الناس في العالم وموت الملايين من البشر؛ وقد أشارت بعض جهات الاختصاص، واستناداً إلى دراسات توقعية إلى إمكانية موت عشرات الملايين قبل توفر لقاح مضاد لهذه الكارثة الوبائية، بالإضافة إلى انعكاسات ذلك على مستقبل البشرية في سياقات حياتها كافة، حتى ما بعد اختفاء الوباء، إن كانت له نهاية، حتى أن من يصاب ويتعافى لن يسلم من عودة إصابته من جديد، ومن آثار إصابته على سلامته طيلة مراحل حياته المقبلة، من خلال ما يمكن أن يصاب به من أمراض مزمنة وتلف في بعض أجهزة جسمه.
في «يوميات فيروس» التي أتشرف بالإشراف على إعدادها، مع فريق عمل مختص، وجهنا العديد من النداءات وصرخات التحذير، آملين أن تلقى صرخاتنا آذاناً صاغية، لدى صناع القرار من جهة، والقراء من جهة أخرى. ما كان ولن يكون همنا سوى أن يتخذ الناس من الوقاية أسلوباً للتعامل مع الجائحة عبر اتباع الإرشادات الصحية الموثوقة، لنتمكن من العيش بأمان وصحة وسلامة، غير داعين إلى مجرد التزام البيوت، وتوقف الحياة، وإنما إعمال العقل المتبصر بالوقاية والممارس لها قولاً وفعلاً.
وأخيراً، فإننا ومع اقتراب عدد الإصابات من ستة وثلاثين مليون حالة، وبلوغ عدد الوفيات نحو مليون وخمسين ألف شخص، نؤكد في صرخة نداء جديدة للإنسانية أجمع ولأبناء شعوبنا العربية وشعبنا الفلسطيني المرابط تحت وطأة كل تهديد، أن السبيل الأوحد أمامنا، ولا شيء غيره متاح، يتمثل في الأخذ بالأسباب، وإلا فإن عاصفة الوباء ستذرونا نحو النهاية الحتمية.
حفظكم الله جميعاً.