السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الدوران حول كعبة النص في "كتابة الصمت"

نشر بتاريخ: 28/10/2020 ( آخر تحديث: 28/10/2020 الساعة: 20:11 )
الدوران حول كعبة النص في "كتابة الصمت"

الكاتب: نداء يونس

"الطين‏؛ ‏ليس سرا فقط/ بل سريرًا/ لكنما‏؛ عيناهُ معصوبتا‏ن و‏قنديلٌ في يدِه‏/ ‏هكذا علمتهُ المسالك/ يُغطي الوشمَ بالآياتِ التي على حجرٍ/ ويمضي فيَّ‏؛‏ مثلَ الدُّخانِ/ في فضاءٍ أَعمى"، أثار هذا المقطع من ديوان "كتابة الصمت" الانتباه حيث رأى البعض انه يحمل ازدواجية في المعنى. ان هذا النص لا يحمل اوجه المعنى اعتباطا، فأوجه الشيء تتأتى من معرفتك بأنه يمكنك الدوران حوله وهذا مفهوم ظاهراتي.

ان شرح الشعر يحوله نثرا، كما ان مفاتيح النص او العلامات هي بصمة الشاعر نفسه، بمعنى ان الشاعر يقدم علاقات جديدة بين دوال ومدلولات تشكل بكليتها علامة، ويعتمد تفسيرها على ثقافة القارئ في الحقل المعرفي اي اشتراكه مع الشاعر في السنن الثقافي.

ما قد يزيد صعوبة فهم الشعر هو طريقة تلقيه ويمكن تلخيصها من خلال ثنائية الوعي والادراك والفرق بينهما، ففيما ان الوعي جمعي ومكتسب وموروث فان الادراك فردي، انه يخضع الجسد الى تجربته الخاصة ومن خلالها يزود العالم بتسمية له اي انه يمتلك ادوات السيطرة، وهذا الذي جعل الشاعر في مواجهة حرب من كافة السلطات، خصوصا الدينية ما لم يلتق معها في اعادة انتاج علامات السلطة وترسيخ الوعي العام والفكر الذي تم تحديده سابقا حتى في العلم كما يدلل فوكو على ذلك.

ان اعضاء الشاعر تشكل معرفتها عن العالم، لهذا كان الجسد، والذي يفهم لدى الوعي الجمعي ببعده الايروتيكي فقط، محورا لـ"كتابة الصمت"، العمل الذي يقدم الجسد كأداة معرفة ووسيلة لتشكيلها بمعزل عن الوعي السابق الذي تمت صناعته. عمل الجسد في كتابة الصمت على تشكيل ادراك الشاعرة بالعالم وبه يصبح الحاضر الذي هو وجهة نظر لحظة من الزمن كما كافة التأويلات والتفسيرات، كما يقول ميرلوبونتي. اذا لا شيء يورَّث، هذه النتيجة مؤرقة لسلطات الخطاب التي تعمل على توريث علامات الخطاب التي تم تشكيلها عبر الزمن.

بالشعر اذا يتحول الجسد الفاني من خلال الادراك الى بنية كبرى ويتحول من بعد افقي الى عمودي لكنه يقدم نفسه كفكرة مثله مثل الموضوعات الاخرى وبالتالي يتحول الى كما اسماه ميرلوبونتي الى اداة لفهم الافق- البنية ويمكنه بذلك ان يرى زاوية الشيء او يخترقه وان يرى زواياه ويجرده من لا مرئيته، وهكذا يمكنه ان يسقط مقولة البنية كحقيقة.

ان الشاعر بهذا يهز اركان العالم كله من خلال اللغة والزمن. انه يقتل الوعي كما قتل هيجل الاله (بمعنى البنية كنص غير قابل للنقاش) ويحول سجننا في التعاقب الذي لا يمكنننا التأكد منه ولا اخضاعه للامبريقيا اي التجربة الى فعل تزامني ينتج علائق تمثل نظرته وادراكه للاشياء والتي تصبح هي ليس فقط وسيلتنا في التواصل بل وفي شرعنه تصرفاتنا امام العالم، هكذا يصبح ادراك الجسد، الذاتي الفردي، هو الذي يكتب التاريخ والرواية من خلال قدرته على رؤية العالم واختزاله وتكثيفه واعطائه التسمية من خلال ادراكه وليس من خلال قوالب التفكير الموروثة.

ان تجربة الشاعر هي التي تصيع سيميوزه الخاص ثم يتحول ذلك السيميوز الى سنن وبالتالي فان التشابه مع الشاعر في التجربة الشخصية مفاتيح مهمة لفهم نصه.

ان تجربة الفقد بالنسبة للشاعر مثلا سواء كان انفصاله عن الموروث او التجربة بذاتها كتعطل الشعور تشبه بتر الاعضاء، اذ تظل "انا" الشاعر تتحرك بكليتها تجاه النقص وتطرح الاسئلة على الغائب، وبهذا تتحدد في الجسد مناطق صمت، وهذا ما يتحدث عنه كتابة الصمت: انه ما يقول الصمت عن الغياب وتعطل الحضور الذي يسحق كل وعي بالعالم مقابل هذا الوعي الفردي الذي يحرك النص فيه واليه.

ومن هنا يمكن قراءة كتابة الصمت عموديا كأن تفسر المقطع السابق على انه وصف للحبيب الذي حفظ الخرائط الى جسد حبيبته، ويذهب اليها معصوب العينين ويمارس اشتغاله الجسدي فيها بينما يحمل قنديله اي ناره ويعرج او يسمو كالدخان في فضائهاالجاهل او الاعمى، فالفعل الايروتيكي هنا هو فعل تسام وصعود واعتياد على نشوة تصنع ادركه بها وبعلاقته بها دون التفات الى شيء ويستدل على ذلك من خلال اشارات في الديوان كله مثل "يصعد في لات الانثى/ كما زرادشت/على بغلته ذات الاجنحة" او "يَتهجّى كتابَ الصَّمتِ/يُفكِّكُ لغزَ الضَّبابِ الذي يحيطُ به/ كلمَّا عرَجَ" او "إليه سيَّرَ دَمِي/ طُيوري، جسدي، ليلِي، خيالاتِي وخُيلائي/ يصعدُ/ ترفَّقْ بالطريقِ إلى الأَعلى" كما يمكن ان يقرأ افقيا من خلال علاقة النص بمجمل المفاتيح مثل "بينما يصعدُ العدمُ من جمرةٍ بين ضُلوعِها البَّاردة" او "لؤلؤةٌ للبحرِ النائمِ/ موجةٌ ليدِ الرَمل/ وهو الأعمَى أمامَ عرشِ الضوءِ والرغبة"، وبالتالي تفهم على انه رجل لا يرى في جسد المرأة سرا بل سريرا وبهذا يذهب اليها باعتياد وينطلق فيها كالدخان بلا اثر وهو يحمل جمرة لكنها جمرة العدم.

ان علاقتنا مع الاخر وفيه علاقة ادراك ذاتي لا يمكن القبض عليها الا من خلال اللغة، لكن المراوغة في كتابة الصمت عالية وتقدم المخفي والظاهر وهما لعبتان ظاهراتيتيان بشكل يؤسس لمعنى الغائب من خلال ما يحضر ولمعنى الحاضر في ظل ما يغيب، انه يقفز على المعنى من خلال العاب اللغة كما يقدمها فنجشتاين ويبنى عليها ليوتار كسلطة، بحيث يترك لكل وعي فردي فرصته في تقديم رؤيته للجانب الاخر من النص، وحيث ان كل نص يمكن الدوران عليه وتقديم ما يراه كل من جانبه.

الشعر هنا اشتغال متعدد، لهذا يستلزم ادوات متعددة للفهم الذي يكتشف القارىء انه بالمحصلة تحريض له ليدخل تجربة قراءة النص لا بوعيه الجمعي بل بجسده اي بتجربته الخاصة في التفاعل وادراكه الخاص رغم ان "انا" القارئ ستظل تتجه بلا وعي منها تجاه الوعي المبتور او الفكر الجاهز في محاولة منها لايجاد معنى يتفق مع القالب وهنا يصبح فهم الشعر أصعب، اذ يرفض القارئ استقلالية الفهم وبتر الماضي الجاهز، لكنه يدرك بالنهاية ان المعنى هو ما يراه من زاويته امام كعبة النص.

يقدم كتابة الصمت مفهوما ظاهراتيا لفهم العالم كما يقدم نصا يُقرأ على عدة احالات داخل سياقه وخارجه. لا اعلم اذا كان هذا سهلا او مألوفا، لكنه جزء من التجريب في الشعر والحياة والفلسفة.