د.صافي صافي
عن دار كل شيء/ حيفا 2020، صدرت المجموعة القصصية للكاتب عبد الغني سلامة، في 263 صفحة من القطع المتوسط.
ربما لست بحاجة للتعريف بعبد الغني سلامة، لولا أني أجد ذلك ضرورياً في سياق قراءة مجموعته القصصية "أساطير الأولين"، فبالإضافة إلى إصدار مجموعات قصصية مختلفة منذ عرفته منها: قبل أن نرحل، ومن سرق روايتي. ونشر كتب مهمة، لاقت صدى بارزا، وبالتحديد كتاب "الأصولية الإسلاموية الجديدة"، وهو يكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة الأيام.
لست بصدد تقديم هذا الكاتب، فهو متقدم أصلا، ولا إنه ابن بلدتي، فهذه مجرد عواطف، ولا العلاقة بين تخصصه الزراعي، وكونه كاتباً، فكثير من الكتاب هم من خارج التخصصات الأدبية.
لكني مهتم كثيراً بمتابعة مقالاته بالتحديد، قبل أن أقرأ هذه المجموعة القصصية، فهو عميق الرؤية، قارئ نهم، متشعب، باحث، منفتح على آراء مختلفة، حتى إنه يمسكها بين أصابعه، وثنايا دماغه، فهو ليس كاتباً عابراً، بل هو مثال للكاتب المواظب، الذي لا يكل ولا يمل، وتشغله التفاصيل، التفاصيل الدقيقة، ليبني منها نصوصاً على شكل مقالات، أو أدباً.
لم أتخيل أنه سيكتب عن فلسفة العلوم يوما، إذ وجدت كلامه دقيقا، عارفا التخصص تماما، ورغم كوني متخصص في هذه، فكرت أن أدعيه، ليتحدث أمام طلبتي، وكتب عن المرأة، والتربية، وحقوق الإنسان، وفي السياسة، والفكر، والتخلف، والمدنية، وغيرها الكثير. كتب عن كل شيء مثيرا للنقاش والجدل. عبد الغني ليس محايداً، بل يقف على أرض صلبة، مدافعاً عن حقوق الناس، والبسطاء منهم، ورغم لهجته الهادئة، إلا أن كلماته تحمل التحدي مرات، والإصرار مرات أخرى، فلا يملك الواحد سوى أن يقرأه ويسمعه، ويقدر تحيزه حتى لو اختلفت معه أحياناً في تفصيلة هنا، وأخرى هناك، فهو يعيد كتابة التاريخ بشكل مثير للقراءة والتأمل.
فهرست المجموعة القصصية: حوار سريع على حاجز طيار، في الطريق إلى صفد، وصية الحلبي الأخيرة، سمارة: قصة من دارفور، حدث في الصين، نيويورك .. نيويورك، طيار إيراني، برقيات عاجلة من الفضاء، حياة مؤجلة، في المتحف، حوار خاص جداً في زنزانة انفرادية، ذاكرة مؤقتة، في الطريق إلى هوكايدو، حسنين، أساطير الأولين، الأم جمالات، إله الشمس، الطوفان، القيامة، أساطير يونانية.
يلاحظ أن عناوين القصص، بحد ذاتها مثيرة، ومتنوعة، وتجوب العالم، انطلق من فلسطين، وجاب العالم، لكن هذا ليس موضوعي الآن.
هناك قصص طويلة، منها العنوان "أساطير الأولين"، و "حسنين"، وهذه هي موضوع هذا المقال
يعرف الفرق بين الرواية والقصة، ليس بطول النص فقط، وإنما للشكل الفني أيضاً، ففي حين تتناول القصة حدثا رئيس ما، أو عدة أحداث قصيرة متتالية، أو شخصية معينة، وتطورها، أو علاقة مع مكان، وهدفها رسالة محددة واضحة أو غامضة، فإن الرواية هي سلسلة من الأحداث، أو الصور، أو الأفكار. الفروق هي في مدى التفاصيل لترسم لوحة متكاملة، على عكس القصة التي يمكن أن تكون ومضة، أو دفقة. الفروق هي أن ترسم لوحة بالفحم مقارنة بلوحة زيتية كما كنت أسمع قبل 40 عاما. الفروق هي تكامل الأحداث والشخصيات في إطار محدد مخطط له. القصة موضعية، بينما الرواية عالم ممتد. القصة فكرة، بينما الرواية نظرية أو جزء منها، القصة لمحة، بينما الرواية تنوع وتشابك. القصة مركزة، بينما الرواية ممتدة ..الخ ذلك، رغم أن هناك قصوراً في التعريف بكل نوع من الأدب.
في قصة حسنين التي تحتل من الصفحة 151 إلى 218، أي حوالي 67 صفحة، تتكون من عدة أقسام هي: برعي، مديحة، أخميم، الشيخ حسن، التصادم، سوهاج، مطاريد الجبل، انفجار الحواس الخمس، الحسن الثاني، أحلام العودة، الرحيل. إن كل قسم من هذه يحتوى على كل متكامل لحدث، مستقل إلى حد ما، ومتكامل مع ما قبله وما بعده، تتنوع الشخصيات وتتعدد، وليس الهدف منها الشخصية المتناولة، أو المكان المحدد، بل الفكرة، إعمال العقل، الرؤية الناقدة، التفكر، وإذا جمعت القصص معاً، تجد تناسقاً بينها جميعاً، بحيث تقف مبهوراً، متنوراً، ليس فقط بما حدث، وما أجراه من تغيير، وتجميع وتفريق، بل بهذه القدرة على الصياغة القصصية، فهل هذه قصص، أم أنها تجمع بين الرواية والقصص؟ إنها كذلك، بل ربما هي بداية مشروع روائي لاحق لكاتبنا عبد الغني سلامة.
برعي، وهو المولود في سنة تفرق ما قبلها وما بعدها، سنة النجاة من الوحوش، سنة رجا الناس فيها الله أن يخلصهم من هذا "الوباء"، المرتبط بكسوف الشمس، عام الذيب، يفقد أباه وأمه مبكراً، أي عاش يتيماً، يتبناه الناس لإرضاعه وتربيته، يتبناه عمه، فيعمل عنده، يرعى جاموسته، فيعيش مع الطبيعة، ويتوحد معها، ويتأمل فيها، ويصل إلى معرفة ما، فيراه الناس مباركاً، وينزل النور عليه، من السماء، ومن داخله. يتعرف إلى مديحة، ابنة الراهب، فيعشقها، وتعشقه، وبعد أخذ ورد، وزمن يروح ويجيء، يتزوجها. تكبره سنا، وهي الحكيمة، القارئة، العارفة، وهو عاشق المعرفة، والحكمة، ترعاه مثل أمه، ويقوم بواجباتها، حتى توحد معها، وهي وأبوها من عرفوا بمآله أكثر منه، فصنعوه صناعة، ليصبح ذا مكانة، وكان مستعداً لها. فنزل عليه الوحي، وبات مرشداً له، ومرشداً لغيره، حتى بات منبعاً للروح، وللحياة. قالوا عنه: مجنون، مسحور. ماتت زوجته، فهام على وجهه شمالاً.
في "أخميم"، وقد غير اسمه إلى الشيخ حسن، يتحول إلى مصلح اجتماعي، يوقف الثأر بين القبائل، ويساوي بينها، وقد بدا أكثر فصاحة، وأكثر نصاحة، وصيغت حوله الحكايات، وأستأجر غرفة قرب الجامع الكبير، وصار محط زيارات الناس للبركة والتبرك، وصار له مريدون، فكتب الشعر، وقال كلاماً ما بين الشعر والنثر، تجمع بين السجع والشعر المقفى، وأنشد، ومال الناس معه كما يميل. ظهر صديقه القديم، وعرض عليه إحدى بناته، بعمر بناته، وهكذا، حتى تزوجها، فعادا الصديقان صديقين، متلازمين.
لم يكتف الشيخ حسن بزوجة واحدة، بل زوجات، يأتيهن كل يوم، فهو على حد قوله، فحل فوق الفحولة. نشر الحب والتسامح كما الصوفيين، وتكررت زيارات الرجل الأبيض، الذي يوحي إليه بأمر السماء. نبذه أهله، وأوشك على الانتحار ربما، فبدأ بالتفكير بالرحيل إلى سوهاج، وفعل، ثم نجع الغوانم. غيّر حسن من تكتيكاته، تعرف على مطاريد الجبل، وثق علاقاته مع الفلاحين، استفاد من خبراته في الطب الشعبي، وبدأ يقرأ الطالع.
استقر به المقام في سوهاج، وساوى بين القبيلتين المتصارعتين، وساوى بين العائلات بالنسب منهم، ونال حسن اعتراف البلدة كمصلح اجتماعي، وبدأ يسعى إلى المال والسطوة، وامتد نفوذه، فوطد علاقته مع مطاريد الجبل، وكسب ثقتهم، وأصبحوا أداة بيده في السيطرة على المنطقة كلها، ففرضت الأتاوات، سماها زكاة، ووزعها عليهم بالعدل، وأرسل الباقي للفقراء، فأصبح أميراً على الأغنياء والفقراء، والمطاريد. صار مرجعاً فقهياً لكل من يحار في مسألة، ومن يرغب بالتكفير عن ذنبه، أو للإيفاء بنذر ما. ثم ما لبث أن استبدل المطاريد، بأتباعه، مريديه، شبان متدينين في مقتبل العمر، يحبونه، ولا يعصون له أمراً، تعرفهم من ملابسهم، وسلوكهم، ولحاهم. وصاروا أدوات أيضاً في فرض شريعته، وفرض العقاب على المخالفين.
تذكر أخميم، وحلم العودة لها، فرض عليها الحصار، وهددها مرة، وأغراها مرات، وهاجم أخوة له من ديانات أخرى، كانوا قد ناصروه في البداية، ورعوه، وصاهروه بالزوجة الأولى "مديحة".
حين بلغ الستين، وبعد ممارساته، سمموه، وبات على فراشه، فبدأ الصراع على خلافته. لم يعترف بذلك، وناجى نفسه: ستون عاماً: تسعى لحكم الأرض، تركض خلف حلم مستحيل، لم تشف غليلك ممن قتلوا أمك، بجسد واهن، وشخصيتين متصارعتين، هل خذلت الأرض، أم الأرض خذلتك، خنتها أم خانتك؟ ويموت في أحضان زوجته الشابة "زبيدة".
ما هذا يا أخي العزيز "عبد الغني سلامة"، وبعد هذا تقول لنا، بأن أحداث هذه القصص خيالية، وجرت في مصر، وأن لا تشابه بينها وبين الواقع، والتشابه كان صدفة؟
هذه ليست قصصاً يا عبد الغني، وليست صدفة، فأنت تمسك بالرواية في هذه القصة بالذات، وسنرى ذلك قريباً معنوناً بصنف الرواية.
هل يكفي أن أحييك على هذه القدرات التخيلية، الملتصقة بالواقع، والحالم بالتغيير، والتفكر؟