السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

طلقات السجائر اللعينة

نشر بتاريخ: 08/11/2020 ( آخر تحديث: 08/11/2020 الساعة: 20:01 )
طلقات السجائر اللعينة

الكاتب: مروان بجالي

أشرقت شمس الحادي والثلاثين من تمُّوز، كانت آخر مرَّة تُشرِقُ فيها الشمس لِتُدَفِّئ جسده بأشعَّتها الدافئة..إنَّه يوم النهاية، اليوم الموعود. يتأملُّ بذاكرته الحادَّة أيَّامه الخوالي، أيام الحرب، والرصاص، والكمائن، ذكريات تتزاحم على أعتاب ذاكرتِه، كُلُّ واحدة منها تطلُب حقَّها في المرور على شريط الذَّاكرة الذي يبدو بلا نهاية.. تناهت إلى ذاكرته ذكرى مشاركته في الحروب ضِدَّ المُستَعمِر البريطاني، عندما كان قنَّاصًا في صفوف الثُّوَّار الفلسطينيِّين، أذاق الجنود البريطانيين الذُّلَّ في ميدانه، ميدانه هو، وما هي الحرب سوى انتصار أحد الجيشين وسيطرته على الميدان، وهزيمة الآخر!! كان مقاومًا ببندقيَّته الطويلة ذات السبطانة الرفيعة كثيرة الأعطاب التي شهدت له معارِكَ طاحنة تعطَّلت خلالها كثيرًا من حين لآخر، جيشًا بأكمله..أسئلته كانت محدودةً آنذاك..كم جنديًّا بريطانيًّا سأقتلُ اليوم؟ أين سأصطاد فريستي التالية؟ أمَّا هدفه..كُلُّ من يحمِل بندقيَّة من طراز إنجليزي ويرتدي زيًّا عسكريًّا ذا لونٍ أخضرَ فاتح، ويتقن الإنجليزية بطلاقة، أولئك الجنود الذين جاء بهم الجنرال إدموند ألنبي اللَّعين معه قبل عقدين من الزمان. "ماذا يريدون مِنَّا؟..ألم تكتفِ بريطانيا بكُلِّ تلك المُستعمَرات التي بسطت سيطرتها عليها حتَّى غدت مملكةً لا تغيب عنها الشمس!!..لكن لا بأس، لقد أذقناهم الويلات. لقد انتزعنا القدس ونابلس والخليل منهم بالقوَّة، صحيحٌ أنَّنا فقدنا آلاف الثوار، حوالي خمسة آلاف مقاتل، ولكن هذه هي أحوال الحروب، الخسارة من سُنَن الحروب، ومن لا يُرِد الخسارة، فلا يخُض حربا!!.." هكذا حدَّث نفسه ذات مرَّة أثناء اختبائه في كهف لجأ إليه بُعَيد كمين مُحكَم قتل فيه خمسة جنود بريطانيين من أصل خمسين جنديًّا تقريبا. سُعال..تتبعهُ سيجارة وشربة من فنجان قهوة باردةٍ باتت معه من ليلة أمس، السُّعال الديكيُّ اللَّعين حرمه لذَّة القهوة ودُخَّان السجائر، أو هكذا يُفترَض، لولا أنَّه لا يتَّبِع نصائح الأطباء!!..ذِكرى أُخرى مَرَّت على شريط الذاكرة المُزدَحِم، اختطف البريطانيُّون ذات مرَّة زوجته وقاموا بتهديده بها لكنها رفضت البوح بمكانه لهم! براري قرية زعترة تعرف هذه القصَّة جيِّدًا، ضحكة استنكار صغيرة تتبعها نوبة من السعال..دون جدوى!! باءت محاولاتهم بالفشل، لكنَّ صورة جليَّة أهمَّ لا تزال تُعانق ذاكرته الحادَّة، صورة ثائر مقدسيٍّ ذي شوارب مُهَذِّبة بعناية، وزيٍّ عسكرِيٍّ أخضرَ مُحايِد. اعتمر حطَّة فلسطينيَّة تقليديَّة وعِقال اتَّخذ من الحطَّة رفيقةُ له، ثائر أحاط صدره حِزام من الرَّصاص، وبندقيَّة رافقته حيثما ذهب؛ إنَّه المُجاهِد عبد القادر الحسيني سيء الصيت بين البريطانيِّين على الأقل. شاركه عشرات المعَارِك، ونصبا سويًّا كمائن أوقعت مئات القتلى من الجيش البريطاني. تدريجيًّا، تبدَّلت الابتسامة بعبوس حادٍّ، شدَّ قبضته وعضَّ سبَّابته بقوَّة، ذكرى البطولات بدَّدها استشهاد الحسيني، وتشتُّت الفلسطينيِّين وحلول النكبة اللعينة. كيف له أن ينسى أسوأ يوم حَلَّ عليه؟ الخامس عشر من حزيران عام ٤٨ م، عندما دفن باكيًا بندقيَّته في تراب أريحا، واستبدل زيَّه العسكريَّ بِزِيٍّ مدنيٍّ أعطته له امرأة فلسطينيَّة عند حدود فلسطين مع الأردن؛ فارتداءُ المرءِ لباسًا أخضرَ آنذاك كان عُذرًا كفيلا للقنَّاصة اليهود على الحدود ليجعلوا من صاحب اللباس ذكرى من الماضي. الأخضر ممنوع، والهرب كان لا بُدَّ منه، لبس جبنًا بقدر ما هو قناعة بأنَّ الحرب انتهت، وأن الأمر محسوم لمصلحة اليهود بشكل أو بآخر. لقد ولَّت تلك الأيَّام، وولَّت معها البطولة، صحيح أن العدوَّ البريطاني قد اندحر، ولكن كان عليه أن يواجه عدوًّا أكثر فتكًا، عدوًّا غزاه من الداخل لا من الخارج، كان يختبئ بين الأشجار، وفي المغارات والجبال هربًا من البريطانيين، ولكن أين يختبئ هربا من السُّعال الديكي، أثناء الحرب ضدَّ الجيش البريطاني، كان يركض، ويقفز، ينبطح، يصوِّب بندقيَّته ويتلذَّذ بصيد الجنود، كان يختبئ هنا وهناك، يتسلَّل، يصرخ إن تطلَّب الأمر، لكنَّ كُلَّ هذا لا ينفع مع السعال الديكي. جسده الذي لم يقتله رصاص الجيش البريطاني، والذي قاسى الجوع والعطش والحَرَّ والبرد أثناء قتال البريطانيين، سيموت بأمراض الجهاز التنفُّسي، بما يصاحبها من حُمَّى وقشعريرة وتقيُّؤ ممَّا يكسر هيبة أيِّ مقاتل كان يومًا مِقدامًا في الحروب كالأسد الهصور..جسد نَحُل وهرَمَت بشرته من كثرة التدخين، التدخين الذي عاند فيه مرضه وتحدَّى به أطبَّاءه..يبقى المرض عدوًّا مثله في العداوة مثل أيِّ عدو يقتل بالرصاص في الميدان، وإن اختلفت الوسيلة، لكن الغاية واحدة، وإن كان الاستسلام للعدوِّ الظاهر أمرًا لا بُدَّ منه أحيانًا، وإن لم يكُن مُبرَّرًا، فالاستسلام للعدوِّ الخفيِّ أمر حتميٌّ.

هذا هو محمد جمعة محمد البجالي كبير قومه الذي لم تقتله طلقات رصاص المحتلّ بل طلقات السجائر اللعينة التي تسببت بمرضه ووفاته بتاريخ 31-7-1962 ودفن في مقبرة زعترة في برية التعامرة.