الكاتب: ملك شواهنة
في فوضى الصباح التي كانت تملأ أزقة شارع النجمة في بيت لحم أواسط الثمانينيات، كان صوت مختلف يردّد "كعييك كعييك طازة من القدس وحياتك" اليوم يُرجع ذلك الصوت ذكرياتٍ حاضرة، حتى بعد اختفاءِ صاحبها، على شرفتها الشاهدة على الحبّ والحرب، كانت سلمى تسقي أحواض الزرع حين علق الصوت فيها أول مرة وما زال يتردد في حضرة الغياب، في قصّتها مع إدوارد المقدسي تقول سلمى: في العام 1985 انتقل إدوارد مع عائلته من مخيم الدهيشة الى شارع النجمة، شاب طموح وصاحب همة عالية، جمعنا الكعك والمكاتيب الورقية وفرقتنا ظروفه القسرية، حين قرر التعلم خارج المدينة ليظفر بي، عاهدني أن يرجع: متعلما ومعلماَ.
تستذكر سلمى يوم عودته بعد عامين قائلة: "بقي على حاله، لم يتغير، وزاد تألقاً ونوراً لذا أطلقت عليه لقب "شمس" نسبة إلى أغنية فيروز" شمس المساكين" وتضيف تبسم القدر لنا فتكلل حبنا بالخطوبة، يومها صدحت الأغنيات في شارع النجمة، شعرت يومها أن كل بيوت الشارع هي بيتي وأن فرحي هو فرحهم جميعاً، كثيراً ما قالت لي الجارات ربما لا يعود، ربما بدل رأيه، ربما يفشل، ربما ينساكِ، لكنه في أول يوم وصل به جاء مع والديه واضعا شهادته في ظرف كبير ممازحا والدي: طلبت ابنتك مني شهادة قبل عامين وها أنا أوفي بوعدي لها.
اتفقنا إتمام الفرح في شباط 1988 لكن الانتفاضة كانت قد امتدت وانتشرت في كافة مدن وقرى ومخيمات فلسطين، فقمنا بتأجيله لشهرين، لكن الموعد التالي جاء في ظروف أشد قسوة من التي سبقتها، فكان العصيان المدني في بيت ساحور وما رافقه من حظر تجوال وحصار للبلدة لعدة أسابيع، ومطالبة الأهالي بالانصياع لأوامر الاحتلال لفتح محالهم التجارية ودفع الغرامات وتسليم ال18 بقرة الشهيرة.
في أحد أيام الحصار المشدد، قامت شقيقتي الصغرى "سلوى" بمساعدة اللجان الشعبية في توزيع الحليب ليلا على البيوت المحاصرة ، فاكتشفتها دورية، لاحقها الجنود وأطلقوا صوبها عدة رصاصات فأصابوها في الفخذ الأيمن، ومكثت عدة أسابيع في المستشفى، وهي حادثة آلمتنا جميعا وأربكتنا لعدة أشهر قبل أن تستقر حياتنا ونقرر أن يتم العرس في آب تتابع سلمى سرد ذلك اليوم الذي لن يأتِ، في الأيام الأولى من آب جاء إدوارد إلى والدي وقال له: عمي، ما بدنا نستنى أكثر الانتفاضة طويلة خلينا نعمله الأسبوع الجاي حفلة عائلية وصغيرة وشوية أصحاب.
تبطئ سلمى في حديثها وتبدأ دمعات بالتشكل في عمق عينيها: فعلا كانت عائلية وشوية أصحاب! لكن في عرسه وحده، لم أكن على علم بأنه أصبح أحد نشطاء اليسار، وأنه لم يترك العمل الوطني حتى قبل زفافنا بليلة، لم يُبدي أمامي أن عليه مهمة نضالية!
اتفقنا على أن يكون يوم الأربعاء 18 آب 1988 موعد زفافنا، رغم إعلانه يوم غضب في الأرض المحتلة، بعد بيان القوى الموحدة لقيادة الانتفاضة، ظهيرة ذلك اليوم خرجت مسيرة كبيرة في قلب بيت لحم، وبدأت رقعة المواجهات تتسع لتشمل محيطها من بلدات ومخيمات، وكانت منطقة المدبسة أكثرها اشتعالا، قبل أن تمتد إلى شارعنا، كنا حينها نحضّر بدلات الزفاف وكان إدوارد يقف على الشرفة ليدل الشبان على تحركات الجيش، واقفاً بأناقته المعهودة، لكن رصاصة قناص أسقطته أرضاً، ليصبح العريس الشهيد.
منذ تلك اللحظة وهذه الشرفة غالية على قلبي، ولا أبدلها بكل عجائب الدنيا الطبيعية، وبشرفات فنادق أوروبا الفخمة، فهذه شرفة حبي وشهيدي إدوارد، منها سمعت صوته أول مرة، وفيها سهرنا وتسامرنا وتبادلنا أسرارنا، وعليها استشهد، على شاهد قبره، كتب أصدقاؤه وذويه: "إدوارد خوري – دير أبان – القدس المحتلّة".