بقلم: د. صبري صيدم
في أوج السباق المحموم لتقديم اللقاح المناسب لحماية البشرية من وباء كورونا، تحاول الدول والشركات أن تجد لنفسها موطئ قدم في الصدارة، عبر تنظيم مؤتمرات صحافية تدعي من خلالها عثورها على اللقاح المنتظر، ليتضح وخلال ساعات بسيطة، أن هذا الزعم ما زال ينتظر استكمال مراحل مخبرية مهمة للفحص، للتثبت من نجاع اللقاح المزعوم، وترخيصاً طبياً وموافقة منظمة الصحة العالمية.
ومع كل إعلان جديد ينطلق الإعلام في مسيرة الترويج لذاك اللقاح والتهليل له، ليتبين وخلال ساعات، أن الأمور ما زالت مبكرة وتحتاج لفترة زمنية طويلة للإنضاج والفحص والتجريب.
فلماذا هذا الهرج والمرج في رفع منسوب الأمل ثم تحطيمه أمام البشرية، التي أوجعها فيروس كورونا ومصائبه، فعشنا وعلى مدار الأشهر الماضية نكبات صحية واقتصادية واجتماعية لا تحصى؟
غزوات كورونا المستفحلة هذه الأيام، إنما تقوم على أكتاف الساسة الباحثين عن المجد، ممن يحرقون المراحل ويحرجون العلماء ويصرون على الخروج على الملأ، ليعلنوا نصراً غير مكتمل.. لا علاقة له بالواقع البحثي المعقد، وما يتطلبه هذا الواقع من وقت مهم للإنضاج.
البعض قال بأن اللقاح يجب أن لا يعلنه الساسة، لأنهم يبحثون عن نصر مزعوم بدون دراية واضحة بالتفاصيل العلمية، وكونهم سيرتجفون عند أول سؤال علمي ولن يعرفوا الإجابة، وهو ما يجعلهم في معظم الأحيان يتحدثون وفي غالبيتهم عبر خطابات متلفزة لا وجود للصحافيين فيها. وغالباً ما يكتفي هؤلاء بالادعاء بأن بلادهم أوجدت اللقاح وبفعالية عالية، وأنهم سيتجهون نحو إنتاج جرعات مليونية قريباً.
وما أن ينتهي صخب الإعلانات المسيسة والأشبه بحرب النجوم ويغيب السياسيون عن المشهد، حتى يأتي العلماء فيكشفون المستور، وتتكشف الحقائق لتؤكد أن حقيقة الأمور تقتصر على وجود محاولات علمية مهمة ومتقدمة – نعم – لكنها مبكرة في حسمها لمعركة لقاح كورونا البشري.
وبين السياسي الطامح والباحث الكابح.. يقف جماح انتصار كورونا على قبان الشعوب الحالمة بالخلاص من الوباء، لتنصدم الأخيرة بحقيقة الواقع المر، الإعلان سياسي ولا لقاح في الأفق المنظور.
وفي أوج مخاض كهذا يغرق المصدّقون بهذه الإدعاءات في مدح الساسة الطامحين، مطالبين إياهم بحجز ملايين اللقاحات لشعوب الأرض ليعودوا خلال ساعات محبطين جراء ضبابية الإعلان، وعدم صدقيته الإعلامية والعلمية، مفجوعين أمام طموح الساسة المهرولين لحجز مكانهم في التاريخ.
وأمام هذا وذاك تقف البشرية منهكة حائرة، من تصدق وعلى من تعوّل؟ على ذاك الرئيس المستعجل، الذي اختطف ملاحظات علمائه ليدّعي نصراً غير واقعي؟ أم ذاك الرئيس المتمسك بكرسي السلطة، والباحث عن مجد تائه يحاول تكوينه في زمن الأفول وانتهاء ولايته؟ أم ذاك الرئيس المترنح أمام ضربات كورونا فيبحث عن أي نصر يعيد له اعتباره وحضوره ونجوميته التائهة؟ أمام هذا وذاك فإن البشرية تجد نفسها ضحية وقاحات علمية غير مسبوقة.
فما الفائدة مثلاً من القول بأن لقاحاً ما قد طورته هذه الشركة أو تلك، لكنه يحتاج للحفظ في درجة حرارة تصل إلى ما دون 67 درجة مئوية تحت الصفر؟ كيف للناس أن تتمكن من تحقيق وضمان درجة حرارة بهذا الانخفاض؟ بينما يدعي المروجون لهذا اللقاح بأنهم قد وصلوا به إلى نجاعة تتجاوز حاجز الـ90%! وفي الوقت ذاته تقدم شركة أخرى لقاحاً تقول بأنه يصل إلى حوالي 95% من حيث النجاعة، لكنه ما زال بحاجة لأن يتخطى المرحلة الأخيرة من الفحص قبل ان يتم ترخيصه وتقديمه لمنظمة الصحة العالمية لاعتماده.
كفى وقاحات في حرب اللقاحات، كفى أكاذيب في أوج الألاعيب، وكفى ادعاءات في زعم الانتصارات، اللقاح يا سادة ليس جاهزاً وسيحتاج لبعض الوقت الذي قد يصل إلى آخر أيام ربيع عام 2021 تماماً كما قيل مع الإعلان عن الإصابات الأولى.
حقيقة قاسية لكنها يجب أن تقال ليس من باب الإحباط المعنوي، بل من باب الواقعية العلمية، والأمانة البحثية التي تستوجب الصراحة والمكاشفة لا المناورة والمداهنة، بل إن البعض يقول بأن إعلان نجاح لقاح ما إنما يتوجب إبعاده عن مذبح السياسيين ومطامحهم. فلقاحات التيفوئيد والملاريا والكوليرا والحصبة والشلل وسارس وأنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر، جاءت عبر العلماء وفرقهم البحثية لا الزعماء والطامحين سياسياً.
وعليه فإن اللعب بمشاعر الناس، أمر مبغوض أمام بشرية مكلومة أوجعها الوباء بشكل أو آخر، إما صحياً أو اقتصادياً أو معنوياً، لذلك فإن خروج الساسة من سباق التسلح بلقاح كورونا سيريحنا من حرب «نجوميتهم» الموعودة، وسيقدم المساحة المطلوبة لإنجاز المطلوب، فالقضية وإن كانت نصراً صحياً أو سبقاً صحافياً أو مغنماً تجارياً، ستحتاج لإنضاج علمي مهم لا يمكن أن يتاجر بحياة البشر وسلامتهم وخلاصهم من الفيروس اللعين، الذي قتل مع كتابة هذه الكلمات ملايين الناس.
الساسة وبحكم انشغالاتهم السياسية الفعلية ليسوا صناع أبحاث علمية، وإنما هم من يوفروا الإمكانات المالية والقانونية والسياسية اللازمة لدعم البحث العلمي، وإحداث الاختراقات المطلوبة، لذلك فإن دورهم مهم في معركة الدعم لا شك، لكنه خطير في معركة حرق المراحل والخروج المتعّجل نحو دوائر الضوء وكاميرات الصحافيين المتلهفين الحالمين بخلاص البشرية من هم كورونا… وما أكبره من هم!