على كبير المفاوضين الجديد – فوق هذا وذاك - أن يستوعب التاريخ التوراتي وإلا فلن يفهم المعادلة أو يتقن المرافعة!
بقلم د. رفيق الحسيني
بعد مرور خمسة عشر يوماً على رحيل الصديق الدكتور صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فمن المؤكد أن القيادة الفلسطينية تدرس تعيين بدائل في المناصب التي تبوأها المرحوم وأحدها مسؤول دائرة المفاوضات والذي حوّله الاعلام الغربي إلى لقب "كبير المفاوضيين"، وبخاصة أن المفاوضات يمكن أن تبدأ من جديد (سواء رضينا أم أبيّنا) مع بداية عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن في مطلع العام 2021.
النصيحة الأولى (والأخيرة) التي أود توجيهها بهذا الخصوص للمرشح الجديد للمنصب هي التأكيد على أهمية قراءته للتوراة اليهودية واستيعابها جيداً، وتحديداً السفر المُعنّون " يوشع"... لأن ذلك سوف يجعله بالتأكيد أقرب إلى فهم عقلية الذين سيفاوضهم – أن كانوا اسرائيليين أم أمريكيين أم حتى متصهينين عرب – واستيعاب طبيعة تفكيرهم، فمن يلعب الشطرنج أو حتى يقود فريق كرة قدم، يجب أن يدخل إلى رأس خصمه من أجل استقراء ما ستكون استراتيجية ذلك الخصم لكسب المعركة سواء بالصراع أم بالتفاوض.
أولاً، على المفاوض الجديد - برأيي المتواضع - أن يفهم ما هي علاقة ابراهيم عليه السلام (الذي سُميت اتفاقية بين اسرائيل والامارات والبحرين باسمه مُؤخراً) باليهود والعرب من المنظور الصهيوني- التوراتي؟ وماذا يمثّل اسماعيل بالنسبة لأخيه اسحق من وجه نظرهم؟ وكيف ينظر "أحفاد" السيدة سارة إلى "احفاد" الجارية هاجر؟ وما هي أهمية الحرم الإبراهيمي في الخليل وقبر راحيل في بيت لحم وقبر يوسف في نابلس ومقام يوشع (ويسمّى ذا اليسع وذا النون وذا الكفل أيضاً) في سلفيت ومقام النبي صموئيل شمال غرب القدس، وفوق هذا وذاك ما عن موقع هيكل سليمان في القدس؟
ثانياً، يجب أن يعرف المفاوض الفلسطيني الجديد تماماً أين تقع حدود أرض الميعاد من وجهة النظر الاسرائيلية، وأين تقع الأراضي التي تقاسمها الأسباط الاثني عشربعد احتلال يوشع لأرض الكنعانيين؟ وهل هذه الأراض تقع في فلسطين وحدها أم تمتد – بحسب الخريطة الموجودة على الموقع الألكتروني لوزارة الخارجية الاسرائيلية – الى أراض في لبنان وسوريا والأردن ومصر؟ ولماذا على كبير المفاوضين الجديد أن يقرأ بالتفصيل الفصل الثالث عشر حتى الفصل الثالث والعشرون من سفر يوشع، حيث تبدأ عملية قسمة الأراضي بين الأسباط، حيث يذكر السفر بشكل مفصل أراضي كل سبط من الأسباط.
ثالثاً، يجب أن يستوعب كبير المفاوضين ما أوصى النبي موسى - بحسب التوراة - قومه اليهود قبل دخولهم إلى أرض الميعاد... وهل حقاُ أمَرَهم بأن يتخلّصوا من جميع السكان غربي النهر؟ وهل حذرهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك، فإن هؤلاء السكان سيكونون "شوكة في أعينكم وفي جنوبكم وسيخلفون لكم المشاكل في الأرض"؟ وكيف أمر موسى قومه بتدمير مدن سكان المناطق وقتلهم أو نفيهم عن بكرة أبيهم، وعدم التوصل إلى أي اتفاق سلام معهم أو إظهار أية رحمة تجاههم، وألا يتزوجوا منهم فلا يعطوا بناتهم لأبنائهم أو العكس؟ وكيف أمَرَهم أيضاً أن من يستسلمون لهم بسلام وبدون قتال يجعلوهم عبيداً وخدماً لهم؟
رابعاً، هل يعي المفاوض الجديد أن قطاع غزة والمنطقة الساحلية الممتدة من عسقلان شمالاً إلى رفح جنوباً هي أراض تقع "خارج أراضي الأسباط الإثني عشر" حيث كان يسكنها الفلستيون فلم يدخلها اليهود، بعكس باقي أراضي فلسطين التي سكنها العرب الكنعانيون وادعت التوراة باحتلالها آنذاك؟ وأن أريحا "ملعونة" بالنسبة لاسرائيل وأن يوشع – بتعليمات إلهية - منع بني إسرائيل من أخذ أي شيء من أريحا بعد أن احتلوها بعد خيانة بعض أهلها، وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها؟ وهل قرأ تفاصيل قصة بن كرمي المذكورة في سفر يوشع في التوراة، الذي خرق التعليمات الربانية وفعل حرامًا عندما أخذ لنفسه فضة وذهبًا من أريحا، مما أدى إلى هزيمة بني إسرائيل في معركة احتلال مدينة "عاي" بشكل مهين وقتل منهم عدد كبير؟ وعندما استفسريوشع عن سبب ذلك، بين له الرب أن في وسطهم حرام، فقتل يوشع بن كرمي وحرق جثته وأعاد الذهب الذي سرقه إلى أريحا، ومن ثم عاد فانتصر وتوالت الانتصارات؟
خامساً، هل سيفهم كبير المفاوضين الجديد أن اسرائيل (بيسارها ويمينها) لا تخالف أبداً تعاليم التوراة ولكن بدون أن تظهر ذلك على الملأ، وأن غزة وأريحا أعيدت لنا في بداية تطبيق إتفاق أوسلو لأسباب توراتية وليس لأي سبب أساسي أو سياسي آخر... لأن "أريحا ملعونة" و"غزة لم تكن ضمن نطاق أرض الأسباط الإثني عشر"؟
سادساً، على كبير المفاوضين الجديد أن يدرك مغزى ما جاء في الفصل التاسع من سفر يوشع عن خدعة قام بها سكان جيبعون (يدّعى المستوطنون أنها قرية الجيب الفلسطينية) لخوفهم من جيش القبائل الاسرائيلية، وبأنهم قد قاموا بهذه الخدعة ليأخذوا الأمان من يوشع على أرواحهم وهذا ما تمّ لهم فعلاً، ولكن عندما اكتشف يوشع خدعة بني جيبعون أبقى لهم الأمان لكنه حولهم إلى عبيد وحطابين وناقلي ماء لبني اسرائيل.
سابعاً وأخيراً، بالنسبة للقدس (والتي تنعتها التوراة بيوروشاليم)، فسيحتاج كبير المفاوضين الجديد لقراءة أوسع للتوراة التي جاء فيها أن القدس - ومدن أربع أخرى - سقطت بيد يوشع، الذي قام بجلب ملوكها الخمس أمامه، وطلب من جميع رجاله بأن يضعوا أقدامهم "فوق رقاب هؤلاء الملوك" وبعد أن انتهوا من ذلك، أمر يوشع بشنقهم وتعليقهم على شجرات خمس وعلى مرأى من الجميع.
وهل سيدرس كبير المفاوضين تفاصيل الرواية التوراتية عن هيكل سليمان – وهو المعضلة الأكبر – والذي عُرف باسم الهيكل الأول قبل تدميره من قبل نبوخذ نصّر البابلي بعد حصار القدس عام 587 قبل الميلاد، ومن ثم اعاد الملك سليمان بناء الهيكل الثاني مكانه عام 516 قبل الميلاد، ومن ثم تمّ تدميره في العام 70 بعد الميلاد من قبل الرومان؟ وهل سيتابع المفاوض الجديد عن كثب ما قيل عن الهيكل الذي يعتقد غلاة الصهاينة بضرورة إعادة بنائه مكان الحرم القدسي الشريف، بما في ذلك المسجد الأقصى (القبلي) ومسجد قبة الصخرة المُشرّفة مع أنه ليس هناك من دليل حقيقي حتى اليوم على وجود آثار لهيكل قديم تحت الأقصى أو الصخرة بالرغم من الحفريات المُكثّفة في المنطقة؟
يتضح مما جاء أعلاه أن مهمة المفاوض الفلسطيني الجديد - كما كانت مهمة د. صائب عريقات من قبله - لن تكون سهلة على الاطلاق، وستزيدها تعقيداً تلك الأساطير التوراتية المنغرسة في ذهن المفاوض الصهيوني الذي ازداد أصولية وتطرفاً مؤخراً، وسيسود حتماً على المفاوض الفلسطيني رغم أن الأخير يمتلك الحق والعدل... أما الأول، فلا يمتلك غير القوة ... والولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول التي تهابها!
إن أقصى ما تستطيع قيادة الشعب الفلسطيني عمله في المرحلة القادمة (ضمن نهجها الحالي وتوجهها لحل الدولتين) هو تصميد الشعب بتوفير أمور أساسية خمسة له، وهي الصحة والتعليم والثقافة الوطنية والوظيفة والمسكن، ولكن أن تفعل ذلك بطريقة لا تشعرنا بالمهانة أو تمسّ بكرامتنا الوطنية.
وفي النهاية أكرر، على كبير المفاوضين الجديد استيعاب التاريخ القديم قبل الحديث من أجل ضحد الأساطير وتفنيد الحجج وتفسير الحقوق بطريقة تُحرج الأعداء وتُربك أصدقائهم وتُشوّش على داعميهم من جهة، ومن جهة أخرى تُعطي ذخيرة لحلفائنا للرد على ادعاءات الأعداء وتُفسّر لداعمينا مواقفنا المبدئية وتوضح للمرتبكين من أصدقائنا خطوطنا الحُمروما لا يمكننا قبوله مهما كانت الظروف!