السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

جيل أوسلو في مواجهة دولة من ورق

نشر بتاريخ: 12/12/2020 ( آخر تحديث: 12/12/2020 الساعة: 18:38 )
جيل أوسلو في مواجهة دولة من ورق

الكاتب: ملك شواهنة

"الكبار يموتون والصغار ينسون" نظرية بن غوريون التي أنشأ عليها أنقاض دولته المزعومة نتيجة وعدٍ لا شرعّيِّ ولا عادل أقام دولة من ورق، فمنذ وعد بلفور إلى الآن، حاول الكيان الغاصب بكلّ الطرق سلب الأرض، أنشأ الكيبوتسات الزراعية والمستوطنات، سرق التاريخ والمتاحف والمكتبات، بعد أن جرفَ ونسف مئات القرى وأحياء المدن الفلسطينية، بينما ظلّت ظلال وآثار الآلاف منها شاهدة على أصحابها العرب الأصليين، حتى والأبراج السكنية والعمارات العصرية الشاهقة ترتفع في سماء يافا وقراها المدمرة على شاطئ البحر المتوسط.

لم يسلم من النهب حتى شجرُ الزيتون وحجارة البيوت والآثار والفسيفساء، ورغم كلّ هذا ما زالت الأرض "بتتكلم عربي" ولا يحتاج الفلسطيني للحفر مئات الأمتار تحت الأرض حتى يتمكّن من إيجاد نقشٍ لنجمة داوود تثبت أحقيته في هذه الأرض، فشتّان ما بين دولةٍ يشهد كلّ من فيها على تجذّرها في هذه الوطن، وبين من يوقّعون اتفاقيات من كلّ حدبٍ وصوب كي يأكدوا لأنفسهم أن دولتهم ليست من ورق، فيأكدون ذلك بالتوقيع على ورق..

وبعد ذلك، أي بعد نكسةٍ وحربٍ وانتفاضة، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي اتفاقية "أوسلو" التي حمل الفلسطينيون "أو من يمثّلهم" على متنها حلمهم بتحقيق الدولة المستقلة، ظانّين أن ما أخذ بالقوة يستردّ بالمفاوضات، ومن رحم الاتفاقيات الكثيرة، ولد جيلٌ بعد انتهاء زمن الحصار والاجتياح والاقتحامات، في زمنٍ يفيض بعبارات الحل السلمي والتنسيق الأمني، فكيف يواجه جيلٌ من رحم الخضوع، دولة احتلال من ورق؟ وهل ظلّ الجيل يؤمن بالحلول على ورق؟

جيل أوسلو، الذي وُلد في فترة المفاوضات ومعاهدات السلام وأول ما أبصره بالسياسة أيادٍ متصافحة من الطرفين الفلسطيني والمحتل الاسرائيلي، الجيل الذي رأى كلمة "دولة إسرائيل" تكتبُ في الفضائيات الفلسطينية ويُعترفُ بها إعلاميّا، الأطفال الذين تعرّضوا "لأسرلة المعاني" بين عبارات "عرب إسرائيل" و "تل أبيب" و"بشتغل في المستوطنة" و"والمعلّم قبّضنا اليوم" الشباب الذين نشأوا وهم يحلمونَ بالعملِ بالكيان المحتل لأن الشهادات في أوطانهم لا تطعمُ خبزا، هم ذاتهم الشباب الذين لم يعايشوا فترة المقاومة بالحجر والمقلاع وزجاجات الملوتوف الحارقة، العصيان المدني ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية بتربية الأبقار، والمقاومة بالزراعة والإكتفاء الذاتي، ورمي الهويّات..

ولكن في وجه العملة الآخر، نرى أن الجيل الصاعد الذي يبلغ أكبره سبع وعشرون عاما خرج من عنق الزجاجة المتثمّل في هذا اللقب الذي رافقه كوصمة سياسية واجتماعية، وذلك منذ انتفاضة الأقصى عام ألفين التي أقاموا فيها المتاريس ورشقوا الدبابات بالحجارة وهم أبناء ستة أعوام.

مروراً بهبة السكاكين التي أشعل شرارتها مهنّد الحلبي الذي يعدّ زمنيّا أحد أبناء أوسلو، في تشرين الأول من العام 2015، استشهدَ الحلبي صاحب التسعة عشر عاما، الذي لم يصوّب في حياته طلقة، بعد اشتباكٍ بدأ بالطعن ثمّ بالإستيلاء على بندقيّة أحد القتلى، حيث أسفرت العملية عن مقتل مستوطِنيْن وإصابة اثنين آخرين، كما كان ناشطاً مؤمنا بالحريّة من خلل فوّهة البندقية، تبعه أحمد جرار وأشرف نعالوة وغيرهم الكثيرن ، مؤكّدين أن هذا الجيل لم يروّض في زمن التدجين والمهادنة والاستسلام، زمن الحلول السلمية مع ربطات العنق والقاعات المكيّفة لتقرير مصير ملايين اللآجئين في الشتات، هؤلاء الفتية آلموا المحتل بعمليّاتٍ نوعية، وأعادوا زمن المطاردة والمناورات، ومنهم عمر أبو ليلى الذي لقّبه الاحتلال ب "رامبو" فعندما داهم جنود الاحتلال بيت عمر، أخبرهم والده بأن عمر "بعملش هيك " فردّ عليه الضابط وقال "لأ بعمل، ابنك صار رامبو"، وفي يومين ونصف من الرعب، أربك فيها ابن التسعة عشر عاما جيشاً بأكمله، في صبّ كافّة الطاقات للقضاء عليه، حتى اشتبك معهم في التاسع عشر من آذار وارتقى شهيدا بعدما خاض كفاحاً وحده أقام في نطاقه حدود دولته المستقلة، تبعه أشرف نعالوة منفّذ عملية بركان بتاريخ السابع من أكتوبر للعام 2018 الذي قتل فيها مستوطِنيْن وأصاب آخرين، واستمرت مطاردته سبعٌ وستون يوما، جنّد فيها الشاباك الإسرائيلي جهود مخابراته لقتل الشاب، وعلى ورقةٍ سطّر هذه الأبيات قبل استشهاده "لا تبكي يا ورود الدار ظلّي غني بغيابه ولما يعود من المشوار كوني الزينة عبوابه" وبتاريخ 13-12-2018 اقتحمت وحدة اليمّام مخيم عسكر وبعد اشتباكٍ ملحميْ، ارتقى شهيدا وآخر ما التقتطه الكاميرات بعد استشهاده دماءُه التي لطّخت كتاب "صراع في الظلام" الذي كان يقرأه قبل استشهاده، فحقّق وصيّة باسل الأعرج وكان "مثقّفا مشتبكا"، ومنهم أيضا عهد التميمي وميس أبو غوش، التي اعتقِلت وحقّق الاحتلال معها بأكثر أساليب التحقيق والتعذيب وحشيّة مثل الشبح على طريقة الموزة والقرفصاء، إضافة الى استمرار التعذيب حتى في أيام الدورة الشهرية، واستمرار الإعتداء بالضرب والألفاظ البذيئة، وهكذا فإن هذا الجيل هو عصب الانتفاضات المتتالية المتكررة في زمن الغياب الحزبي والتنظيمي، هذا زمن العمليات الفردية المنطلقة من نزعة وطنية خالصة تجاه الأرض.

المختلف في جيل أوسلو أنه وُلِد في زمن التحسّر على العمليّات النوعية والاغتيالات وذكريات الانتفاضة الأولى والتعاضد الاجتماعي، وانهيار الفصائل والأحزاب عمليّا، وفقدان الثقة بالقيادات العربية والوعود الإسرائيلية بمنحهم مترا من أرضهم، فأنشأ هذا الجيل خطته على خرائط فارغة، شكّل عليها نظرته للمستقبل السياسي الفلسطيني، وللصراع على الرقعة المحتلة، فلجأوا الى وسائل محليّة حوّلوها الى رمز مبتكر لتوطيد الصراع المتشظّي بعد غياب السلاح، فالسكاكين أصبحت أداة تهديد يُطارد صاحبها، للرعب الذي رافقته عمليات الطعن التي وقّع على نجاحها أبناء العشرون عاما، أقل أو أكثر بعدة أعوام، ولم يغب عن هذا الجيل أي وسيلةٍ متاحةٍ وممكنة، فمن السكاكين الى عمليات الدهس المباغتة والتي تمت بذكاء ولياقة عالية في التصرف وإتمام العملية بنجاح.

هذا النموذج من الشباب والشّابات الذينّ شكّلوا رمزاً، بدّل النظرة لما يُعرف ب"الإرهابي الفلسطيني"، بوجهٍ وسيم يلتفّ بكوفيةٍ فلسطينية يطارد العدوّ بأبسط الوسائل مؤكّدا أن غياب السلاح لا يعني غياب المقاومة، هذا الجيل تشرّب الثقافة الوطنية وكبر على روايات غسّان كنفاني وإميل حبيبي وإبراهيم نصر الله وأشعار توفيق زياد وسميح القاسم ومعين بسيسو، فعرف الثورة وقرأ عن بلاده الممتدّة دون نقاط تفتيشٍ وحواجزٍ وتصاريح.

غير بعيد عن المقاومة بالوسائل المتاحة، كانت الثقافة، فعلا نضاليا، برز خلاله بهاء عليّان المولود سنة 1993 في جبل المكبر بالقدس المحتلة، صاحب فكرة أطول سلسلة قراءة حول جدران القدس التي تتلخّص في تحشيد الشباب المثقّف الفلسطيني بإحضار كل منهم لكتابه المفضّل، وهي الفكرة التي أدخلت الشهيد المثقّف بهاء عليّان موسوعة جينيس للأرقام القياسية، واستمرت الفكرة وامتدّت في كلّ محافظات الوطن وجامعاته تخليداً لذكراه، وترسيخا لمبدأ "تسقط الأجساد لا الفكرة".

فهذا جيل أوسلو الذي كان مولده انبعاثا للمقاومة من جديد رغم كل الصعاب التي تواجهها القضية الفلسطينية ومحاولات إجهاض أي حياة ممكنة لزمن العمليات النوعية والمقاومة، هذا الجيل عرف الطريق التي ضيّعتها المفاوضات، ورسم المسار على الأرض المحتلة، فبالوصلة واحدة وهي القدس، والدافع مشتركٌ وهو الانتماء، والهدف واضحٌ وهو الحريّة ورد الكرامة المهدورة.