احتلت اكبر مدينة في الضفة وعاصمة اكبر محافظة، مركز الاحداث الداخلية خلال الأسبوع الماضي، ونخطىء في التقويم اذا حصرنا ما حدث كمجرد رد فعل على قرارات الحكومة بشأن اغلاقات كورونا، مع ان العنوان كان هكذا والتوقيت كذلك.
لقد سعدنا بارتفاع نسبة الامتثال للاغلاق الصحي، لذا سنعالج الحكاية في ظرف اهدأ.
ما حدث في الخليل حدث مثله وان بمستويات متفاوتة في العديد ان لم اقل جميع مدن الضفة، تارة تشتعل نار بفعل اقتتال عائلي وتارة أخرى بفعل احتجاجات على قرارات وإجراءات تتخذها السلطة ودائما نحصد كفلسطينيين ثمارا مرة جراء ذلك، ان لم تدمر السلم الأهلي الذي هو رصيدنا الأساسي في صمودنا الصعب ، فهي تهز اساساته على نحو يضعنا في حالة قلق دائم على الحد الأدنى من استقرارانا المجتمعي، وحالة من هذا النوع هي اخطر ما يعيشه شعب مثخن بجراح الاحتلال ومثخن كذلك بجراح الانقسام، ناهيك عن رزمة جراحات تدمي جسدنا الوطني منها ما هو اقتصادي وما هو اداري وامني، ومما يضاعف مفاعيل الجراحات جميعا انها تتزامن مع جائحة كورونا التي لم تظل في نطاق كونها مجرد وباء يتعين علينا معالجته، بل أقدمت قوى نافذة على تسييسها الى ان بلغ الامر حد اعتبارها من قبل البعض مؤامرة يتعين مواجهتها بالانصراف عن الإجراءات الطبية المتخذة لمحاصرتها.
في الخليل هنالك اندماج عميق بين الناس الذين يوشكون على بلوغ المليون من حيث العديد وبين السلطة والقوى السياسية والعشائرية، التي هي في الخليل اقوى حضورا في الحياة العامة منها في أي مكان آخر. ولم توجد بعد قوة تستطيع فرز هذا النسيج المتداخل وإلغاء حضوره وفاعليته في حياة الناس.
فلم تعد العشيرة كما كانت زمن لم تكن نسب التعليم فيها تتجاوز الواحد بالمائة، بل انها صارت مجمع كفاءات وخريجين وبوسعي القول وبثقة ان لا امية في عشائرنا الا بنسبة ضئيلة جدا، ولا ظاهرة ان يجر جميع أبناء العشيرة بعصا وراء المخاتير والوجهاء بل صارت العشيرة التي ما تزال تحتفظ بكيانيتها الموروثة اشبه بتجمع قوى سياسية تضم الاسرة الواحدة أعضاء ينتمون الى اتجاهات متصارعة، ما افرز ظاهرة مفادها ان كل منتم الى فصيل يعمل على جر من يستطيع من اهله لمصلحة فصيله ان لم يكن انتماء عضويا فتصويتا في أي انتخابات على أي مستوى.
وفي واقع كهذا علينا ان نقلق من الامكانية الموضوعية بل والتلقائية لأن تحرق الشرارة سهلا ما دامت ستجد من يعمل على توظيفها لمصلحة اجندته، وكأن النار حين تصيب الهشيم الجاهز للاشتعال ستحقق لاصحاب الاجندات مزايا... واي مزايا ترتجى حين يضرب السلم الأهلي في الصميم.
الشرطة وقوات الامن وان كانوا ضروريين لحفظ النظام ومحاصرة النيران في اضيق نطاق فليسوا هم الحل الحاسم للظواهر التي نراها على السطح دون التعمق في جذورها فهذه ليست مهمة مؤسسة الامن.
مناشدة شيوخ العشائر للتدخل حد التعويل ربما الأساسي على دورهم بما في ذلك استصدار بيانات منهم كما لو انهم أحزاب وفصائل منسجمة تأمر فتطاع فهذا خط لا جدوى منه امام استفحال الفرز الفصائلي والحزبي داخل العشيرة الواحدة.
اذا اين يكمن الحل مع الاخذ بعين الاعتبار ما لدى الاحتلال من نفوذ مباشر يستخدمه باستغلال كل ما يراه في مصلحته من الظواهر المرضية في المجتمع الذي يحكمه بالقوة وبكل الوسائل الأخرى ويسعى بلا هوادة للسيطرة على حاضره ومستقبله.
الحل يكمن بوجود سيطرة مركزية وطنية على البلاد كلها والشعب كله وهذا لا يمكن ان يتوفر ووفق التجربة في غياب مؤسسات رئيسية تنبثق عنها مؤسسات تنفيذية أولا على الصعيد التشريعي والرقابي وثانيا على الصعيد الحكومي التنفيذي وثالثا على الصعيد القضائي.
في غياب المؤسسات الرئيسة ومركزها البرلمان فلا تشريعات جديدة ولا رقابة مركزية يخضع لها الجميع وبالتالي فان الحكومة التي لا تنبثق عن هذه المؤسسة الرئيسية تظل ضعيفة التأثير في الحياة العامة وضوابطها، والضعف اشبه بحلقات في سلسلة ان لم تعالج السلسلة كلها فسيظل الخلل قائما ليفرز ضعفا متماديا في السلطة المركزية ومؤسساتها وقدراتها.
وهذا ما رأيناه ليس في الخليل وحدها وانما في كل المناطق الذي ظهر ضعف السلطة جليا فيها.
فوق كل هذه المؤسسات وضابطها الحاسم هو القضاء ، انه في واقع الامر بحاجة الى ترميم شامل فهو ليس مجرد الضلع الثالث والاهم في بناء السلطة والدولة حين يقدر الله لها ان تقوم، بل هو ضمانة السلم الأهلي والجدار الذي يحمي ظهر الناس من الظلم والفوضى وظاهرة اخذ القانون بيد كل من يدّعيه.
كان المجتمع الفلسطيني قبل السلطة وفي كل العهود قد وجد ملاذا لتأمين السلم الأهلي عبر القضاء العشاري الذي سد فراغا كبيرا في حياتنا الا ان تعقيد شؤون الحياة جعل منه عاملا مساعدا وليس رئيسيا، مساعدا لقضاء مدني قوي البنية والنفوذ المستمد من القوانين وأدوات تنفيذها.
انها مسيرة طويلة لتحقيق هذا الحل الجذري لما نعاني
وما حدث في الخليل كان بمثابة انذار ولم يكن متوقعا ان يدوم اكثر من أيام بفعل الخوف الجماعي من استبداد الفوضى وبفعل المبادرات الشعبية المنبثقة عن الحرص والتخوف.
ان سلطة حديثة قائمة على المؤسسات ستكون قادرة على جمع كل الإيجابي في مكونات الوطن العشائرية والسياسية والاجتهادية وتحييد كل السلبي الذي دائما ما يظل واقفا خلف الأبواب والنوافذ لينقض حين يرى استفحال الثغرات في الجسد الفلسطيني دون ان تسد ونحن الفلسطينيين لسنا استثناء عن الكون كله الذي تحكمه المؤسسات والبرلمانات، فلنفعل كل ما هو مطلوب منا على صعيد الوطن كله والشعب كله لكي لا نقول الى اللقاء في الاضطرابات القادمة.