بقلم: د. غازي حمد
ينتظرون ويترقبون عما تسفر عنه انتخابات حركة حماس الداخلية.
السؤال المهم والاهم : ما الذي يتغير بعد كل دورة انتخابية من تجديد رؤى وسياسات واعتماد خطط وتحقيق انجازات, وهل ينعكس ذلك على الوضع التنظيمي والحالة الوطنية؟
حماس- كحركة وطنية عريقة ذات خلفية اسلامية - تمتلك الكثير من مقومات القوة من اعداد بشرية وقوة عسكرية وتنظيم واسع, فضلا عن قوة التصاقها وتمسكها بالثوابت الوطنية واصرارها على عدم الاعتراف بالاحتلال او الانسياق وراء التسويات السياسية الباهتة وتمترسها بقوة المقاومة المسلحة وعلاقتها بعدد من الانظمة والاحزاب والتيارات الاسلامية والوطنية.
عوامل القوة هذه, كان من المفترض ان تؤهل الحركة للعب دور سياسي ووطني أكبر مما هي عليه الان, وتدفعها الى اصلاح وقيادة المشروع الوطني واعادة ترتيب البيت الفلسطيني وتقديم بديل للمسار السياسي الفاشل والمأزوم الذي قاده الرئيس ابو مازن طوال ربع قرن.
حماس, التي تدخل عامها الرابع والثلاثين, يعول عليها الكثير من القوى والفصائل في تصويب الحالة الوطنية واعادة الاعتبار لمشروع التحرر ومعالجة الكوارث التي ألمت بالحالة الوطنية.
غير ان غياب الاستراتيجية والرؤية الشمولية وغرقها في مشاكل غزة جعل الحركة عرضة للاستنزاف وللضغوط الآنية والظروف القاسية والمتقلبة, فأرهقت في ملفات فرعية- كالمصالحة والتهدئة والانتخابات - استهلكت منها وقتا كبيرا وجهدا هائلا, وضاقت عليها الخيارات بما رحبت.
ان الحركة, وهي تستوي على سوقها الوطني, جديرة بأن تستخلص العبر من المحطات الكثيرة- سواء الناجحة او الفاشلة - التي مرت بها, وترسم مسارها الوطني والسياسي بثبات واحكام متقن.
انتخابات تقليدية
منذ اعوام وحركة حماس تجري انتخابات دورية- تقليدية- افرزت العديد من الهيئات والقيادات السياسية المتتالية, لكنها, بالعموم, لم تكسر الروتين الذي دأبت عليه منذ عقود ولم تحدث تغييرات جذرية على مستوى النهج التنظيمي بكل تفرعاته ونشاطاته, وكذلك على مستوى اصلاح الحالة الوطنية بشكل عام, وظلت الامور تسير بنهج روتيني ركز على زيادة القوة البشرية والعسكرية للحركة.
صحيح انها انتخابات ديمقراطية, وسمة مميزة للحركة, تشوبها من وقت لآخر بعض الشوائب تنغص حلاوتها وتضيع بهجتها, لكن تكمن مشكلتها الرئيسة والجوهرية انها انتخابات نمطية تقليدية غير متجددة.!!
هذه النمطية التقليدية غير المتجددة فرضت حصر نتائج الانتخابات في اختيارات وخيارات محدودة في اطار الفهم والعمل التنظيمي المجرد, الذي يفرز الاعضاء والقيادات حسب مفاهيم تنظيمية روتينية تم الاعتياد عليها منذ نشأة الحركة, غير مرتبطة بالحالة الوطنية أو بدرجة الوعي السياسي, او حتى بالكفاءات والمهارات الادارية والمهنية. وهذا يعود سببه الى طبيعة التنظيم وطريقة الانتخابات التي تميل الى السرية المغلقة التي تحجب عن الاعضاء القدرة على التواصل والانفتاح وتنقيح القيادات والمواقف, وتحصر الاختيار في مناطق جغرافية محدودة جدا.
ان قاعدة حماس, وبعد 33 عاما من العمل التنظيمي والسياسي والاجتماعي, لم يتبلور لديها فكر أو رأي في توسيع أفقها الانتخابي, من حيث فتح باب التنافس الابداعي بين الاعضاء في طرح الرؤى والافكار, والمزاحمة في اصلاح الوضع الحركي, او المدافعة في اجتراح معالجات وطنية ذات جدوى, ودأبت على التسليم او القبول بالتغييرات الطفيفة غير الجوهرية. ولهذا فان الانتخابات غالبا ما تتحول الى (نسخة كربونية), تتكرر فيها القيادات ويتكرر فيها العمل والنشاط التنظيمي دون ان يترجم ذلك الى تغيير حقيقي وملموس.
ان الهدف من وراء أي انتخابات ليس مجرد اجراء عملية اقتراع او فرز قيادات, بل هو كسر الروتين النمطي واصلاح الاخطاء وخلق حالة تجديد وانبعاث على مستوى القيادات والبرامج, لهذا فان ما يسبق الانتخابات من استعداد وتمهيد وخلق اجواء يضمن انتخابات تُحدث فرقا.
ضرورة اجراء تغيير نوعي
ان طبيعة وتربية قاعدة حماس يغلب عليها الطاعة والانتماء والتسليم بالموقف القيادي والدفاع عنه أو التبرير له او السكوت عليه, وهذا ما يقلل من الشجاعة والقدرة على النقد الجريء او المدافعة في طرح الخيارات البديلة, بالرغم من تحسن درجة الوعي عما كانت عليه في السنوات الماضية.
ان قاعدة حماس لم يجر توعيتها وتثقيفها سياسيا طوال العقود الماضية, وانحصرت ثقافتها في حدود المدرسة الاخوانية التي قصرت-عموما- عن خلق تجربة ناضجة في ادارة الحكم والدولة ومعالجة القضايا السياسية الكبرى بمهنية واحتراف, وما جرى من تثقيف وتوجيه كان عبارة عن (تلقيم) وليس نقاشا مفتوحا وتبادلا وتنقيحا للآراء والخيارات والبدائل.
ان اعادة (تأهيل) قاعدة حماس – فكريا وسياسيا- هي نقطة قوة في خلق حركة متجددة ذات ابداع وذات مساهمة اكبر في الشأن العام.
ان من الخطأ الجسيم ان يتخلى البعض عن فكرة توسيع دائرة الوعي والتفاعل تحت مبرر الاستناد الى ظهر القوة العسكرية.
هذه مشكلة القاعدة !!
اما مشكلة القيادة التي لازمتها طوال مسيرتها, فقد تمثل الغرق في تفاصيل ومشاكل الحياة اليومية, وهو الامر الذي (سرق) جانبا مهما من قدرتها على التفكير الاستراتيجي ورسم خطط مستقبلية محكمة في معالجة الكوارث الوطنية وادارة الصراع مع الاحتلال من خلال رؤية شمولية, لذا فإنها اضطرت- او قل انجرت- في بعض الاحيان الى التعامل مع مقترحات غير مضمونة, والى الانسياق وراء خيارات ليس من صناعتها ولا من تدبيرها, دفعها لتقديم تنازلات دون ان يثمر ذلك عن تحقيق الاهداف المرجوة.
على سبيل المثال لا الحصر, فان الاندفاع لإجراء الانتخابات(وهو خيار ابو مازن الوحيد), سواء متزامنة او غير متزامنة, واعتبارها مدخلا صحيحا لمعالجة الوضع الوطني المترهل لم يكن في محله, وقناعتي أنه حتى لو نفذت الانتخابات لاستدرجت الحالة الوطنية الى مأزق أعمق وأشد خطرا, وذلك بسبب غياب الارضية الصلبة التي يجب ان تقف عليها الانتخابات, وهي البرنامج السياسي واصلاح منظمة التحرير.
كما ان الحركة استنزفت نحو 13 عاما في ملف المصالحة مع حركة فتح دون احراز تقدم, وكان الاولى بالحركة التفكير في طرق ابداعية مختلفة لمعالجة الصدع الداخلي والتغلب على الفشل السياسي لمسار الرئيس ابو مازن من خلال بدائل وخيارات وطنية متاحة وقابلة للتنفيذ.
ان امام الحركة مهام ضخام جسام عظام, تستوجب منها الا تضيع أي جزء من طاقتها في تجارب جانبية غير مضمونة, وألا تلج في (مغامرات) غير محسوبة ومدروسة جيدا, لأنها ليست في ترف من الوقت, ولأن الحالة الوطنية لا تحتمل مزيدا من جولات الفشل او مرارة الانتكاس!!!
ان (التحزم) بالرؤية الاستراتيجية والالتفاف الوطني والخيارات الواقعية يؤهل حماس لحمل لواء التجديد وتجسيد الحالة الثورية الكفاحية واعادة الهيبة الفلسطينية ..
ارتباط الانتخابات بالحالة الوطنية
صحيح ان الانتخابات الداخلية سمة مميزة للحركة, لكن اعتبارها انجاز يُتغنى به يضعف الثمرة الحقيقية للانتخابات.
البعض يريد ابقاءها نمطية تقليدية منغلقة كي يفرح بالشعار القائل ان الحركة قوية ومتماسكة وغير قابلة للانشقاق, لكن الامور أكبر من ذلك!!
ان الانفتاح وزيادة الوعي وتحويل الانتخابات الى حلبة تنافس فكري وسياسي وساحة استعراض للمنجزات, بعيدا عن الشعارات الفضفاضة, لهو المفتاح والحل لرفد الحركة بدم جديد وقدرات مبدعة وخلاقة في خلق نهضة حركية حقيقية في جميع النواحي, الفكرية والسياسية والادارية.
لذلك فان انتخابات الحركة يجب ان ترتبط ببعدين مهمين: الاصلاح الحركي, والقدرة على ترميم الحالة الوطنية.
من الخطأ حصر انتخابات حركة كبيرة وذات تاريخ وحضور شعبي ووطني في (جدر) حزبية محضة او لمجرد تمرير قيادات تقليدية, او ان يكون الهم الاكبر ان تنهي حماس انتخاباتها بسلام !!
لا نريد للانتخابات أن تترسخ في مفاهيم ابناء الحركة ومناصريها ومحبيها- بل وعموم الشعب الفلسطيني - كحالة اعتيادية او مجرد عملية اقتراعية او اعادة تركيب للهياكل الحركية , غير مؤثرة في الحالة الوطنية, بل نريدها ان تتحول الى علامة فارقة وتحول نوعي وانعطافه ذات دلالة في كل دورة انتخابية.
ما لم يكن البعد الوطني والاصلاح التنظيمي حاضرين فان الانتخابات لن تعدو ان تكون نسخة كربونية مكررة, مثلها مثل باقي الدورات الانتخابية السابقة.
الخروج من حالة الصدمة
الحالة الوطنية محزنة ومؤلمة ومخجلة !!
بما فيها من ضعف وانقسام وتشتت في التوجهات وبعثرة للجهود وضياع للبوصلة و(خربطة) في الاولويات واحتراف في توزيع الاتهامات.
في المقابل نرى ان الاحتلال(ماخد راحته ع الاخر) في استكمال مشاريعه الاستيطانية والتوسعية وبناء الجدار وتهويد القدس, وفي توسيع دائرة عدوانه في لبنان وسوريا والعراق وايران, بكل صلافة وعلانية متعجرفة وكأنه لا يرى أحدا (ملي عينه), ثم كسر محرمات الجدار العربي من خلال عملية التطبيع الانهزامية ...
فيما نحن نتفرج-واجمين فاغرين افواهنا- على هذا المشهد الدرامي الصادم, حلقة بعد حلقة, دون ان نفعل شيئا سوى الاستنجاد بشعارات كبيرة وفارغة وبيانات وتصريحات لم يعد لها موقع من الاعراب الوطني!!
نحن أمام واقع لا يحتمل (ترف)الاحتفالات والمهرجانات وكثرة الندوات والخطابات..
نحن امام سيل من المصائب الوطنية التي تستلزم الخروج من حالة الصدمة.. حالة التردد..حالة الحيرة..والبحث عن خيارات جدية وفاعلة.
حماس, والتي اصر انها تمتلك رصيدا كبيرا من عوامل القوة, ومعول عليها في رسم خارطة التجديد الوطني, مطلوب منها الخروج من النمط التقليدي والدفع في اتجاه دفق حيوية أكبر في شرايين المشروع الوطني من خلال رؤية استراتيجية يكون العمود الفقري فيها اعادة الاعتبار للمقاومة وقدرتها على انهاك العدو ودفعه لتقديم تنازلات جوهرية, وفي مأسسة علاقات وطنية تشكل شبكة حماية قوية للمشروع الوطني, وفي خلق (لوبي) عربي واسلامي ودولي يسند ظهر القضية.
يجب الا تتوقف الحركة عند المنجزات (المحدودة), ويجب ان تنظر الى ما هو أبعد من ذلك, وان تربط كل سياساتها ومنهجها وادائها ومنجزاتها بالحالة الوطنية وليس الحزبية.
ان الانجرار وراء مسميات خاطئة وخادعة مثل (المقاومة الشعبية) التي لا تشكل أي حالة ردع للاحتلال, او (الانتخابات) والتي هي اطالة عمر لمشروع اوسلو الفاشل, او صيغة (القيادة الوطنية) التي هي مجرد ترقيع لحالة وطنية مهترئة, انما هو نوع من الوهم الذي زُين للحركة.
لذلك مطلوب من الحركة ان تقف وقفة جادة وتعمل على مراجعات حقيقية لسياساتها وأدائها, وتعرف في أي مربع تقف والى أين تتجه ومتى ستصل, وتفسح المجال امام الخروج عن المسار والنمط التقليدي الذي دأبت عليه منذ عقود, وبداية ذلك اجراء تغيير داخلي جوهري , مصداقا لقوله تعالى ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
الفرصة قائمة ... لكن تحتاج من يغتنمها ويلتقطها ويباشر العمل بها.
حان الوقت لكسر التقليد والذهاب باتجاه التغيير والصراحة والجرأة والعمل النوعي.
من يريد تحرير الوطن فليحرر نفسه من كثير من الاوهام ...كثير من الشعارات .. كثير من الاخطاء.