الكاتب: عاطف القانوع
تبدو واحدة من تجليات عظمة حاتم علي في تلك اللحظة الفارقة التي حمله فيها خاله على كتفيه على نحو خاص، وصار به إلى مخيم اليرموك، لست أدري ما إذا كانت قامة خاله عالية بما يكفي، ليتمكّن الصغير أن يرى بوضوح، لكن ما أستطيع أن أجزم به أنها حتما كانت شامخة.
على وقع خطا الخال المنهكة كان الفتى الصغير يراقب ببطء شديد، كل التفاصيل الممكنة والتي سوف تعاد صياغتها فيما بعد، وتنفجر الأسئلة في حلقه الغض، تلك اللحظة التقطها وعيه الخاص، وطبعها على صفحة فؤاده، وظل يحرسها، ويحوطها بالرعاية، وتكبر معه، حتى إذا أنضجها ضميره الإنساني الرحب الممتد، والمتسامح، المتجاوز إكراهات الجغرافيا، والعرق، واللون والدين، ألقى بها تحفة فنية خالدة تسطّر في دقّة عالية واحدة من أقسى سرديات الوجع الإنساني فرادة.
لستَ مضطرا أن تقطن أحزمة الصفيح، ولا تلافيف مخيم، يكوي لهيبه وجهك، ويجمد برده عروقك من أجل أن يستيقظ ضميرك، ولا أن تحمل بشرة سوداء لتحس بمواجع السود، وعنصرية البيض التي تحز روحك، كلا، ليس مطلوبا أن تكتوي بفقد حبيب، ليعي ضميرك معنى الفقد، لست مضطرا أن تكون فلسطينيا لتفهم معنى الوجع، معنى أن تقتلع من أرضك، وتلقى في عراء المنافي، وصحراء التيه، معنى التشرد والنبذ والخذلان.
لقد كان ضمير حاتم علي الإنساني الممتد، العابر حدود الأمكنة والأزمنة والأديان والألوان والأوطان، من القوة والرهافة بحيث لا تحول دونه الحدود والسدود. في إدراك الألم، والإحساس بوجع الآخرين، ورؤية الظلم الواقع بهم... إنه يحس ويشعر ويبكي وينتحب، ويعبر، وينحاز ويقرر. ويعلن موقفه الأخلاقي، وواجبه الإنساني.
إن اشتراط وجود الضمير الإنساني الممتد لأي تحفة أدبية أو فنية هو العتبة الأولى نحو مدارج الخلود، ولا يكون ضميرا إنسانيا بافتراشه خارطة الجسد؛ حتى يمتد ليصغي إلى تنهدات الضحايا حيثما وجدوا في كل زمان ومكان. بمثل هذا الضمير نحاول فهم فرادة إبداع حاتم علي في رائعته (التغريبة الفلسطينية)، وكثير من أعماله الفنية، والإجابة على سؤال مكرر طالما وجّه له: كيف يمكن لمخرج غير فلسطيني أن يقدم عملا عن هذه القضية؟
ربما يرى الكثيرون أن التوجه نحو الإبداع الأدبي والفني في التعبير عن الموقف الأخلاقي والواجب الإنساني تجاه الضحايا إنما هو أداة الضعيف في مواجهة القوي، وحيلة المضطر الذي أعيته المقادير، وهو اعتقاد تعززه الوقائع التاريخية للقوة الغاشمة التي تسحق بلا رحمة، لكنه يظل اعتقادا منقوصا، ذاك أن الزمن حينما يستكمل دورته، والفن تأثيره وفاعليته، يظهر عوار ذاك الاعتقاد، فلا شيء يقض مضجع الطغاة الظالمين مثلما يصنع الفن الخالد، المتعالي على الزمان والمكان، المنبعث من ضمير إنساني قلق.
إن الأعمال الفنية الخالدة غالبا ما تستعصي على الموت والفناء، والاندثار، والتغييب، ولا تكون خالدة حتى تشع في الضمائر الميتة فتبعث فيها الحياة، وتسري في النفوس الواهنة المنكسرة فتطلق إرادتها الخلاقة، وتصوغ وعي الأجيال الواعدة التي يراد تغييب وعيها، وقتل ضمائرها، وعزل إرادتها.
وفق هذا المنظور نحاول أيضا فهم القيمة التاريخية لأعمال حاتم علي، إنها فاعلية الضعيف الأعزل بين يدي القوي المقتدر، لا تلبث أن تسري في وعي الأجيال بصمت وهدوء، حتى تفاجئ الغزاة الظالمين بجحافل الأحرار، المنبعثين من سراديب المنافي، وهوامش التاريخ.
لم يكن حاتم من القوة بما يكفي لمواجهة سردية تاريخ يتم التواطؤ على إعادة صياغته، ولا مقاومة وقائع يراد تثبيتها الهش على واقع آيل للتردي، ولكنه كان من الصدق بما يسمح أن يجسد عذابات الضحايا، وأن يرسم على نحو غير قابل للطي والنسيان صور الوجع الإنساني الفلسطيني بكل تفاصيله وملامحه. لقد اقتاتت مواجع الضحايا قلبه الهش فلم يكمل رحلته، وسكت فجأة على غير ميعاد، ليستأنف حاتم جديد معركة الوفاء لتنهدات الضحايا والموجوعين.