الخميس: 26/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

بين كفتي ميزان

نشر بتاريخ: 05/01/2021 ( آخر تحديث: 05/01/2021 الساعة: 19:16 )
بين كفتي ميزان

كتبت: سنابل عمر

لقد نُسجت تلك الموازين العشائرية من العصر القديم حيث بدأ بها أجدادنا كمرحلة بدائية وبنية أولية في فض النزاعات والكراهية والعنف وحقن الدماء وذلك لنشر السلام والارتقاء بالنفوس نحو المحبة. ومن هذا الأمر فقد كان القضاء العشائري هو اللبنة الأساسية لتوفير الأمن والوحدة ونبذ الحقد ومعالجة المشاكل المجتمعية، باستعمال الحكمة والاستنباط ووضع النقاط على الحروف على طاولة تضم المصلح والمتخاصمين وفنجان قهوة تفوح منه رائحة حب الهال. وهنا تنقسم الأحكام العشائرية لتطبيق الأعراف أو لتطبيق الشرع أي ما جاء في القرآن و السنة، فيحتكم الناس لحل مشاكلهم بطلب تدخل رجال الإصلاح بالحكم العشائري ويتكون الرجال من وجهاء البلد أو من مناطق أخرى، حيث يُدخِل عليهم أصحاب المشكلة لشعورهم بالظلم وحاجتهم للمساعدة.

ويكون التوجه للدخالة على رجال الإصلاح بحسب الجرم المرتكب إذا كان صغيراً فيتم التوجه إلى وجهاء القرية أنفسهم أما اذا كان كبيراً فيتوجهون إلى رجال خارج المنطقة، ويتم تحديد موعد لسماع المشكلة الحاصلة من الطرف الأول وموعد آخر لسماع الطرف الثاني، وهناك بعض الأشخاص لا يملكون ميزة التكلم بطلاقة فيحضرون شخصاً آخر للحديث عنهم ويسمى لسان حال وهنا يلتزم صاحب القضية الصمت ولسان حال هو الذي يتكلم عنه في الجلسة المنعقدة بحضور رجال العشائر من مختلف المناطق وأطراف المشكلة، وعند حل المشكلة يقررون من هو الكفيل ويكون كفيل دفع وسوق، وهما شخصان يتم اختيارهما من كل طرف لأخذ الحق منهما والكفيل ملزم بتسديد الدين أو التعويض عن الظالم أو المظلوم.

وتتعدد أنواع العطاوي ابتداءً بعطوة الدم والتي تعطى مهلة ثلاثة أيام كحد أقسى في حالة القتل أو حتى محاولة قتل، ثم عطوة قص وبص للبحث في الأمر بعمق، وعطوة حجب شر أما هذه العطوة فهي رفعة لمدة شهر في حالة حرق سيارة مثلاً أو مشكلة على أرض ما. وأصعب عطوة هي الدم لأن من أحكامها التوصل لهدر دم القاتل إذا كان متعمداً، وبالرغم من ذلك فإن حق الدولة السائدة لا يسقط عن القاتل، وباقي العطوات يكون حكمها بالعادة التعويض المادي أو الجلاء للمعتدي وعائلته خارج البلاد.

وتتم الدخالة على رجال الإصلاح بالتصريح بجملة( داخل عليك) ويمكن أن تكون بعادة عقد الكوفية التي يرتديها المصلح، ويقصد بها (داخل عليك ومولي أمري إلك) حيث يكون هذا المصلح ملزم بحل المشكلة، وكذلك بطريقة وضع وجه أحد المصلحين في مشكلة ما كخلاف على أرض لا يستطيع صاحبها جلبها من المعتدين فيقول وضعت وجه فلان عليها، فيجب على فلان أن يقوم بحمايتها لغاية تبيان الحقيقة وفض النزاع، ويكون ذلك من باب الشهامة في الغالب، والبعض من المصلحين يطلب مبلغاً مالياً وهنا يمكن أن ينسحب الداخل على المصلح بقوله وجهك أبيض، وسأحصّل حقي بالقانون الدولي لعدم قدرتي على دفع هذه المبالغ، بالإضافة لشيء اسمه المصاريف في حالة اعتداء معينة، حيث يجب أن يدفع المعتدي تكاليف الضرر الذي صدر عنه.

ومن المصاريف المطلوبة في حل القضايا العشائرية هي عندما يحتكم الطرفين المتخاصمين عند مصلح ما، وهذا المصلح لم يستطع البتّ في مشكلتهم فيرفعهم لبيت ثانٍ غير بيته فيطلب من كلا الطرفين دفع رزقة بيت وهي مبلغ من المال يدفعه الطرفان لحل المشكلة يقدر بين 3000 إلى 5000 دينار وهذا المال يقسم بين وجهاء العشائر وتختلف المبالغ المطروحة بحسب القضية الحاصلة فمثلاً في قضايا القتل تتمحور المبالغ بين 80 ألف دينار و200ألف دينار، أما الاعتداء على بيت فيتم حساب عدد الأدراج والطبقات التي تخطاها المعتدي في المنزل ويكون الدفع على ذاك الأساس بمبلغ يقدر ب500 دينار للدرجة الواحدة وهكذا، ثم توضع القهوة للوجهاء ولا يتم شربها حتى خفض المبلغ المطلوب بقولهم جملة(لوجه الله ولوجه الرسول ولوجوه الحاضرين) حتى التوصل إلى مبلغ مقدور على دفعه.

ويتم اللجوء للقضاء العشائري على أسس وحلول سهلة وسريعة في إنجازها وكذلك فإن هذه الحلول أثبتت نجاحها في العديد من الأمور وخاصة أنها تفض النزاعات وتبت في القضايا دون عقبات كثيرة وكذلك تزيل الآثار السلبية من حقد أو كره في النفس البشرية فهي تهدف في أول الأمر إلى إعادة الحب والود بين المتخاصمين، ومن هنا يرى البعض أن هذه الحلول بسهولتها وسرعة فضها للنزاعات ما هي إلا حلول مؤقتة متهاونة وخاصة فيما يتعلق بمشاكل الدماء والقتل، وخاصةً في الآونة الأخيرة فلم تشهد البلاد قتلاً وقضايا خطرة كالحاصل اليوم، وخاصة عند إنهاء المسائل التي يجب هدر دم القاتل فيها بقليل من النقود بحجة الحفاظ على المجتمع من الفتنة مع أن هذه الحلول هي أكبر الفتن.

فلأيهما الحكم الأفضل! القضاء العشائري أم السيادة القانونية؟

وبالتالي فيرجح البعض الكفة الثانية للميزان وهي السيادة القانونية للبلاد فلا بأس بتعاون كفتي الميزان معاً كثنائية تقوم بالحفاظ على حقوق الناس وأمنهم، ولكن في المسائل الخطرة والكبيرة يفضل التوجه للقانون السائد للخروج من المعيقات المدمرة للمجتمع وبنيانه الموحد.

ومن هنا يطرح السؤال الذي لطالما تم طرحه في المجالس العشائرية عند نقطة التأزم في حل الخلاف، هل تريد حق العرب أم حق الدولة؟

ونقاط التأزم كثيراً ما تكون حلولاً ركيكة و غير مقنعة أو مبالغ كبيرة يطلبها المصلحون في أيامنا هذه على عكس القديم من الزمان الذي كان بها المصلح يحتسب ثوابه من الله وأنه يفعل ما يفعله في العديد من المشاكل بأكبر جهد ممكن. فهل بات هذا الإصلاح ناجعاً أم لا؟ أم أنه بات مصدراً للدخل يتكئ عليه الكثيرون؟

ملخص القول لا غنى عن الكفتين (العشائري والسيادة القانونية الرسمية) فهما سواء في سيرهما معاً نحو العدالة وجلب الحقوق لأصحابها، وخاصة أن القضاء العشائري له إدارة تعرف بإدارة شؤون العشائر وتتبع لمكتب الرئيس منذ عام 1994 وبعد ذلك بفترة من الزمن أي في عام 2005 تم إلحاق تلك الإدارة الإصلاحية بوزارة الداخلية لتتولى بعضاً من المهام الموكلة إليها ولكن بما يتماشى مع القانون السائد، فالصك العشائري حين كتابته بين طرفين يكون مقبولاً في المحاكم الإسرائيلية والفلسطينية وغيرها.