بقلم : حسن عبدالله
كتابة السيرة الذاتية ليس مجرد ذكر لأحداثٍ ومعطياتٍ حتى لوتم تقديم ذلك بشكل موضوعي ودقيق، وإنما هي فن أدبي كما الرواية والقصة والقصيدة الشعرية، وقد يكون الأمر أكثر تعقيداً... لماذا؟
لأنك عندما تكتب خلاصة تجربة فإن قضايا كثيرة تتفاعل وتتداخل، ويصبح الخلط بين العلوم واردا.. ففي السيرة يحضر التاريخ وعلما الاجتماع والنفس والقدرات الأدبية، ويشتد الحوار بين الحاضر والماضي في محاولةٍ لاستشراف المستقبل.
في السيرة الذاتية تتجلى الوقائع والأحداث وتفعل حركة الجدل فعلها.. كيف؟ التاريخ يعرض مراحله وعلاقاتها ببعضها بعضا، وكيف أسست كل مرحلة للمرحلة الأخرى، ويعرض التاريخ أيضاً بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية في المراحل الزمنية المتتابعة، بإبراز السمات والمؤثرات والمكونات التي نشطت وشكلت علاقة جدلية في تفاعل ِالذات مع الموضوع.
تفصح جدلية الحياة عن حالها في مقولات علاقة الخاص بالعام، والظاهر والجوهر، والسبب والنتيجة، والشكل والمضمون، والامكانية والواقع، وفي قوانين الجدل الفلسفية لا سيما التراكم المعرفي والخبراتي الذي يؤدي إلى نقلات نوعية في الشخصية الإنسانية والتجربة الكلية.. كل هذا وقفت عليه وأنا أقرأ كتاب "ذاكرة الترف النرجسي" للأديبة د. حنان عواد الذي صدر حديثاً عن مكتبة كل شيء في حيفا.
عندما استضفتها في برنامج "عاشق من فلسطين" الذي أعددت حلقاته وقدمتها من خلال فضائية معاً، كان وفاؤها لأبي عمار القائد التاريخي قوياً واضحاً، ومن الطبيعي أن يكون كذلك، وهي التي كانت مقربة منه ومعحبة بشخصيته.
حنان عاشقة للقدس، ابنة لها، دائمة التفاعل معها، ففيها تكتب وتنتج، ومن وحيها تبدع، ومن عبقها تتعطر رئتيها كل لحظة بدفقات من هوائها المتخلق من قدسية المدينة وعبقها.
في القدس تعلمت حرفها الأول، وفي القدس علمت تلاميذها فصيح اللغة العربية.
قبل عشرين عاماً من حلقة "عاشق من فلسطين" أجريت حواراً تلفزياً مطولاً آخر معها في برنامجي الثقافي "البيدر". ما بين حنان١٩٩٧ وحنان ٢٠١٧ لحظت الحيوية ذاتها ، والحماسة التي لم تستكن لحظة واحدة. اليوم وأنا أقدم قراءة تحليلية لكتابها الجديد اجتهد لعلني أمسك بأكبر قدر من أبعاد تجربتها، أقول بداية إنني كلما كنت انتهي من قراءة صفحة من صفحات كتابها أعود إلى ما كتبته عنها في كتابي الصادر في العام ٢٠١٨ الذي ضمنته التجارب الإبداعية والثقافية الخمسين التي استضفتها في برنامج "عاشق من فلسطين"، استحضر ما قرأت واستخلصت في كتابي بخصوص تجربتها، حيث كنت وكأنني بشكل مسبق أكتب جزءاً من عرضي التحليلي هذا.. كيف لا ؟ وهي كثفت خلال ساعة تلفزية بعض المحطات من سيرتها وعلى وجه الخصوص علاقتها بالرئيس ياسر عرفات.
الأديبة حنان عواد تجمع بامتياز بين جمالية اللغة حينما تكتب، وجمالية الحديث عندما تروي فصولاً من تجربتها. تحرص في المجالين على وضع الكلمة في سياقها الصحيح، وكأنها تزين عنق القارىء أو المستمع بعقد من نفيس الكلام .
قرأت لها بانتظام منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي ما كانت تنشره في الصحف والمجلات المحلية، وقرأت كذلك عدداً من إصداراتها التي نُشرت فيما بعد، وفي كل قراءة كان يتأكد المؤكد بأنني في حضور شاعرة بلغة متجددة وصور مدهشة.
لقد نجحت في تعميد اسمها في ثلاثة مشاهد: المحلي والعربي والدولي، مستندة إلى وطنية ليست محكومة بموقف أو مزاج، أو بانسحام أو لا انسجام، لأن الوطنية في قاموسها حالة دائمة من الالتحام بالوطن. وطنية انتماء وفكر وسيل لا يتوقف من المعارف والأدوات التحليلية. وطنية خرجت من رحمها موهبة أدبية قادرة على تخزين الحب، وقادرة على ضخ الحب في كل الاتجاهات، في المكان والزمان.
الوطنية في قاموسها القدس التي ما إن تخرج منها في كل مرة لأمر ما حتى تستعجل الرجوع إليها . الخروج من القدس والعودة إليها تمرينٌ للروح على مزيد من الحب ، وتهيئةٌ للحب لكي يعبر عن حبه في الذهاب والإياب، لتظل حنان تتنسم القدس كلاماً وغناءً وتاريخاً واشتياقاً.
في سيرتها الذاتية نجد خلاصة حياة، حيث تطوف بنا في القدس ورام الله ونابلس وطولكرم وعمان وبيروت والقاهرة وتونس وبغداد وعديد العواصم العالمية.
إن أهم ما يميز سيرتها في رأيي:
أولاً- الدقة والصدق في وصف الأحداث، وفي العلاقة بين خاصها والعام الوطني والثقافي.
ثانياً- اعتزازها بعلاقتها مع القادة التاريخيين كأبي عمار وأبي جهاد رحمهما الله، ليكون كتابها ذاكرة حقيقية للترف النرجسي، والنرجس هنا بالمعنى الجمالي ، وبمعنى العبق الذي يفوح من المكان، ومن الذاكرة، وليس تقديس الذات بإغراقها في النرجسة.
الكتاب بوح بما كان، وما حدث، وبالتالي فإن النرجس تتويج لإنجاز ونجاح. أنا شخصياً أحب النرجس، سيد الزهور والمتفوق عبقاً وحضوراً، والمقترن لدى كثير من الكتاب والمبدعين بالإنتاج والعطاء، وقد كتبت ذات يوم من ضمن ما كتبت عن النرجس وعلاقته بالكتابة تحت عنوان الكتابة والقراءة النرجس :
"سكبتْ نبتة نرجس على جسدي نهراً من عبقها كناية
عن صباح الخير يا صديق.
حاولتُ أن أرد التحية بتحية اقتربت منها.. همست في أذنها.. قلت:
حين تسبح روحي في نهر نرجسكِ يضرب قلمي عن الكتابة العادية ويقرر كتابة رائحتك.
فتصير قراءتي وكتابتي برائحك النرجس.. رائحتك".
لذلك وأنا العاشق للنرجس المنتشي برائحته، كيف لي ألا أتنشق رائحة النرجس في عنوان هذا الكتاب.. في عنوان هذه السيرة الذاتية، ففي النرجس طاقة حياة.
ثالثا ً- لم أجد في كل المقابلات التي أجريتها لا سيما التلفزية منها على مدى ربع قرن من الزمان، من كتب عن أبي عمار بحميمية حنان. هناك من كتب عنه وهو حي، لكنه صمت بعد رحيله. أما في حالتها فلا تتوقف عن ذكر أبي عمار القائد والأخ والصديق والمعلم.
رابعاً- تشدني في المذكرات اللغة العالية كماكتاب "رحلة جبلية .. رحلة صعبة" للشاعرة الكبيرة فدوى طوقان. اللغة العالية ترفع السيرة الذاتية إلى مصاف الأدب الرفيع، واللغة المتواضعة تجعل السيرة مجرد أحداث تصلح للتوثيق ليس إلا. حنان عواد كتبت هي الأخرى صفحات كثيرة يقول الشعر فيها كلمته، ويطلق السرد القصصي تسلسله وشويقه.
خامساً - يبرز في سيرتها الذاتية دور المرأة الفلسطينية المبادرة القادرة على الوصول بأدبها وفكرها، وقبل كل شيء بقضيتها، إلى كل أصقاع الدنيا.
سادسا- الحنين إلى القدس حتى وهي ملتصقة بالمكان، فكيف بإنسان يحن إلى مكان هو فيه؟! هذا هو خاص التجربة الفلسطينية، لأن الفلسطيني يخشى أن يُنتزع من المكان، وأن يُنفى منه ويصبح خارجه، فالحنين إلى القدس- المكان لم يبرح حرفها وهي تكتب من داخل المدينة المقدسة.
سابعا- التفاؤل المطلق بالنصر، بالرغم من التحديات والانتكاسات التي عانت منها قضيتنا في العقدين الأخيرين، إلا أنها ما انفكت تكتب مفعمة بالأمل، متيقنة أن القادم سيحمل للفلسطينيين الأفضل.
وأخيراً إذا كانت تكتب للناس شعراً ونثراً وسيرة ذاتية، فهي تتعلم منهم كما أكدت لي في "برنامج عاشق من فلسطين"، فقد تعلمت من الجامعة، وتتعلم من السوق، ومن بسطاء الشعب، كما هو حال كبار المبدعين، فالروائي السوري حنا مينه قال: تعلمت في السوق، ومن على قارعة الطريق، أي أنه تعلم من الحياة.. من الناس، ليعود إليهم بنصوصه الإبداعية التي فيها من قسماتهم ونبضهم، لكن بمداد حسه وذائقته وفضاء خياله وحلمه. شكراً للأديبة حنان عواد التي تعلمت من الناس وعادت إليهم بخلاصة فكرها وإبداعها في "ذاكرة الترف النرجسي".