شعر: المتوكل طه
***
أتذكَّرُ رجُلاً شابَ صغيراً
كان يُفرِّجُ عن أطيارِ القفصِ، فيُطْلِقها في الغيمِ،
ويرقصُ في السّامرِ مثلَ الفرسِ الموعودَةِ بالسُكَّرِ،
أو يغمزُ شبّاكاً قرويّاً غطَّته العذراءُ بمنديلٍ بانَ
عن الثلجِ البائنْ.
كان يسيرُ إلى الشيخِ النائمِ تحتَ القُبّةِ، يسألُهُ
فيعودُ الشيخُ إلى الصمتِ..
لماذا تُحْرِقُني النَّحْلةُ يا شيخُ
وتلسَعُني الأحْرُفُ؟!
ولماذا لا تكشفُ عنّي الثوبَ، وتُعطيني الخِرقَةَ؟
كيف تكونُ الغَوْثَ وأنتَ حياديٌ مثلَ الحجرِ الغابِنْ؟
انهَضْ!
وابعثْ في الأوصالِ الموقدَ،
واجعلْ ناركَ شمساً في الليلِ المُعْتمِ،
واصْرُخْ حتى تبتلَّ الوديانُ،
وينهدَّ التَّلُّ من السَّفْحِ،
ولا تمسحْ عْثْنُونَكَ بالكفِّ،
وخُذْني للأسرارِ الذهبيّةِ كي تكتمِلَ الأقواسُ
ويتَّحِدَ النًّصلُ مع الجُرْحِ الساخِنْ
***
أنتَ الحرفُ؛ فكيف سيُخْبِرُ عنكَ،
ويعجزُ أن يُخْبِرَ عن رسمٍ يدويٍّ مجذوذٍ؟
هل أنتَ الميمُ المنفيّةُ أم نونُ القاطِنِ؟
ممسوسٌ أنتَ بفضّةِ أفراسِ الجبلِ،
وميْتٌ لا يفنى،
أو متروكٌ في مصرَ ببيتِ امرأةٍ ما فتِئَتْ
في معراجِ الأَخْذِ،
ومختبئٌ في عينِ الصقرِ،
ومشدودٌ من قلبِكَ لسياجِ الكرزِ الدمويِّ،
ومهتوكٌ من أعمامِكَ،
أو منذورٌ للعيدِ الماجِنْ..
أنتَ ملاكٌ في ملكوتِ المقْصَلَةِ،
ومعبودٌ في زمنِ الكُفْرِ،
وأنتَ مريٌد دون الأبدالِ،
وحيداً في الليلِ،
بلا دائرةٍ تتعلَّقُ بالعَرشِ،
فَكُنْ ميمَ المرْمَى
وفَمَ المحبوبِ
ومبتدأَ الظاهرِ والباطِنْ.
***
وظَلَّ مقامُ القبّةِ دون رذاذٍ ضوئيٍّ،
فانْكَسَر النرجسُ من زَخِّ البَرَدِ،
وسافرَ..
أين ستذهبُ؟
ستقولُ الجدّةُ للضوءِ، وأنتَ مَدِينٌ دائِنْ؟
هل في الغربةِ شمسٌ، حتى تَتْبَعَها؟
سأكونُ أنا الشمسَ ونورَ القمرِ وإشراقَ الرُّمّانةِ،
سأكونُ بلاداً أُخرى تحملني لبلادي،
وسيوفاً يشحذُها الدمعُ وشريانُ الأشجارِ،
سأجعلُ من لغتي رَكْحاً للوردِ، وأطواقاً للنارِ،
وآباراً للبرقِ المُضْمَرِ في الغيمِ الساكنْ.
.. ومضى، بعْدَ العُرْسِ
وسبعُ عرائسَ عبَّأنَ القريةَ باللوزِ الفاتنْ.
***
كان فتيّاً مثلَ غزالٍ بريٍّ
حَمَلَ الجوريّةَ في عروتهِ،
حتى تعرفَهُ الأزهارُ وبستانُ الشوقِ،
وحطَّ على نَهْرِ الموّالِ، وسافر في الرّاءِ
إلى أن أخَذَتْهُ السِنَةُ إلى أحضانِ العشقِ،
وظَلَّ النّخلُ على مقْرُبةٍ من رؤيتِهِ، فاكتَمَلَ السوُر،
وكان البلدُ الآمِنْ.
***
وطوَّفَ في اللّاهِثِ والهادي،
جسَّ الثلجَ وحرَّقَ أوتارَ العيدانِ،
وصادفَ أشرعةً تاهتْ في البرِّ،
وأخرى تمخرُ في الأوهامِ،
وخبَّأ صاحبَه المرصودَ وراءَ ملامِحِهِ،
وتهيّأ للرّعدِ، وما اهتزَّ،
وأعطى للغرباءِ طريقَ العودةِ،
أهدى للعشاقِ قواميسَ الحَبقِ،
وبات بعيداً عن لغَطِ السّاسةِ،
والذَهَبِ الآسِنْ!
***
لعلكَ كنتَ الأوحدَ في وَجْهِ الألوانِ،
تُفَكِّكُ ما التَبَسَ من العوسجِ في النَّجم المحروثِ،
وصِحْتَ؛ انتبهوا!
قد أخَذَ الشيطانُ ثياب السَّادِنْ!
وتَزَيّا الضبعُ بجلدِ الشادِنْ!
وانغَرَسَ الرُّمْحُ اللادِنُ في ظَهْرِ الزيتونِ،
وهذا السيركُ الوطنيُّ سيُفْضي للعدمِ،
ومَن يخطبُ في الليل الدّاجنِ.. لاحِنْ!
ما عادوا!
لكنّ المهزومَ تغنّى بالنّصرِ على جثّةِ جدَّتِهِ،
والوطنُ المُرْهقُ يبقى مشطوراً تحت العجلاتِ،
ومَنْ عانَقَ قاتلَهُ.. عادَ إلى الأوهامِ،
وقَطَّعَ رأسَ مدائنهِ بسلامٍ، أحيا التابوتَ
وآياتِ التّيهِ
وناووسَ السّيّافِ الطاعِنْ..
يا قومُ!
ومَنْ يأخُذُنا للضّادِ الواضحةِ
هو الضِّدُّ الرّاطِنْ..
لكنَّ الشعراءَ انغمسوا في الرقص الوثنيّ،
وساروا نحو سرابِ المنبرِ،
وتجلّوا في المحْفَلِ،
بأناقةِ طاووسٍ
يبتدعُ لسيدةِ المشمشِ كأسَ الإعجازِ،
من الأول والثاني حتى السابعَ والثامِنْ..
وبقيتَ هنالك، وحْدَكَ،
يا ميمَ المحراثِ،
وترياق السُّمِّ،
وسُلَّمَ منزلةِ المفتونين الممتدَّ
إلى وطنٍ أثْخَنَهُ البيّاعُ الخائنْ.
وستبقى روحَ اللهِ، على قنطرةِ الكَشْفِ،
وقمحاً للبَدّ الطاحنْ.. حتى تخضَرَّ حواكيرُ البلدةِ
بنواةٍ تشهقُ في الطينِ الحاضِنْ.
وستبقى الإيقاعَ الوازِنْ.