الكاتب: تحسين يقين
كان من بين التربويين الفلسطينيين، منذ بداية التسعينيات، حين بدأت التربية الحديثة في فلسطين تأخذ طريقها، وحين بدأت أولى خطواتي كمعلم زميل له قبل أن يتفرغ للفكر التربوي وتدريب المعلمين، تبناني تربويا، وقد كان من حسن ظني، أنني وآخرون قد عرفت طريقنا الى مركز تطور المعلم-المورد. عن إسماعيل النجوم سأجتهد في هذه المقالة لعلي أفيه حقه، وقد ودعناه قبل أيام، كأحد الأعلام التربويين، الذين عملوا بصمت ورحلوا بصمت.
أنه مونولوج خاص فعلا بإسماعيل النجوم، هي كلماته، ورحلته، وأفكاره. يقول النجوم:
"ليس التعليم بهذه الصعوبة والتعقيد، بل هو بهذا التفكير وهذه الإنسانية...
بالصراحة يمكن أن نضع النقاط فوق الحروف لنقرأ! وهذا مفتاح تكوّن الخبراء الحقيقيين في التربية والتعليم والثقافة.... لا يكفي أن نسأل هل تعلم الطالب جيدا فقط، بل بالأحرى علينا أن نكون أخلاقيين وإنسانيين فنسأل أنفسنا: هل علمنا جيدا؟
التعلم الفعال يكون من خلال تعليم فاعل، أي لا بدّ من إعادة الاعتبار للمعلم. هو الأساس، ومن يدعي غير ذلك فلير كيف تكون العملية بدون معلمين!
تأهيل المعلمين دوما يأخذني إلى بدايات عملي كمعلم، وتعرفي على زملاء المهنة. وكل معلم وله تاريخ تعليمي تطور خلاله كمعلم كما تطور هو نفسه حين كان على مقاعد الدراسة، فالتعلم لا يخص الطالب فقط بل والمعلم أيضا. ربما تكون خلاصة التجارب والخبرات هي في تعلم المعلمين من بعضهم بعضا، فمن قال إن العلم هو في الكتب فقط!
أود فقط تذكر كيف تكونت خبراتنا وكيف تطورنا معا حين قصدنا أن نتعلم كيف نعلّم!
كان ذلك في صباح أحد الأيام المدرسية في أوائل الثمانينات حين فاجأني طالب بسؤاله حول مكونات القنبلة المسيلة للدموع التي يقذفها جنود الاحتلال الإسرائيلي لقمع مظاهرات الطلبة في رام الله والبيرة، كنت وقتها معلم الكيمياء في المدرسة الأردنية بالبيرة، وكوني متخصصا في الكيمياء كان عليّ أن أجيب الطالب عن سؤاله!
تفسير أمر بسيط هو ما طلبه الطالب، وليس أمرا كبيرا، ورغم ذلك فقد فوجئت بالسؤال، وليس هذا فقط، بل بدأت تنشأ داخلي كمعلم أسئلة كثيرة عن التعليم في بلادنا."
ولربما نشأت أسئلة مثلها لدى معلمين وتربويين آخرين في فلسطين وبلادنا العربية بالمنظور القومي، غير أسئلة زميلي وأستاذي إسماعيل النجوم الذي تزاملت معه في التعليم في إحدى المدارس الخاصة برام الله؛ حينما بدأت مشوار التعليم.
تحدثنا عن عملنا في التعليم وكيف صرنا في بداياتنا نعلم كما تعلمنا صغارا، وتواردت الخواطر لسبب بسيط أننا كنا صريحين في الحديث. فحين بدأنا نعلم، كغيرنا من المعلمين، خريجي الجامعات والمعاهد، كنا نعلم كما تعلمنا في المدرسة، فحاكينا أساليب المعلمين الذين تتلمذنا على أياديهم، حيث أن الإنسان حين يتعلم شيئا فإنه لا يتعلم المعلومة فقط بل يتعلم أسلوب تعليمها، فالشخص الذي يتعلم المعلومة بواسطة المعلم إنما هو كمن يلقنها تلقينا، فيصبح عاجزا عن التفكير، ويكون جل همه هو في تحصيل العلامة العليا عن طريق الحفظ وإعادة إنتاجها في أوقات محدودة(الامتحانات). طبعا الأخطر من ذلك هو ما يترسخ لديه من أسلوب تلقي معلومات الإعلام، والثقافة والعادات الفكرية السائدة التي تقيَم المطيع الذي لا يجادل بشكل إيجابي.
كان من الطبيعي أن أعلم وغيري كثيرون مثل إسماعيل النجوم وفق المعادلة المذكورة، ليس فقط في أسلوب التعليم بل أيضا في أسلوب التعامل الإنساني، وبهذا المعنى كان على المعلم أن يشرح للطلبة ما هو موجود من معرفة، على شكل المرسل والمستقبل، وفي ظل ذلك مطلوب منه ضبط الطلبة أيضا من خلال أسلوب تقليدي باستخدام الحزم والترغيب والترهيب وهكذا.
كان من الطبيعي والعادي أن أصنع هكذا وكيف لا افعل وزملائي إنما يصنعون مثلي، وجميعا نقلد معلمينا الأوائل الذين بدورهم هكذا تعلموا وعلموا.
يقول النجوم: "بعد سؤال طالب زميلي والذي أراه كان "السؤال القنبلة" عن قنبلة الغاز المسيل للدموع كان أن حدثت لدى المعلم هزة تربوية، "تفسير أمر بسيط هو ما طلبه الطالب، تفسير أمر يعيشه ويحس به ويتأثر به نعجز عنه، إذن لماذا تعلمنا في الجامعة، ولماذا نعلم؟ وكيف نعلم؟"
بدأ زميلي يحس أن هناك شيئا ما ينقص العملية التعليمية، لكنه لم يعرف ما هو، ولأنه لم أعرف هذا البديل فقد بقي يعلم كما كان، لأن عليه أن يعلم، وفي خلال ذلك بدأ جديا بمحاولة البحث عن أسلوب جديد.
في بداية عملي كنت أعلّم اللغة العربية، وصرت أتذكر طفولتي، حيث إنني علمت في الكتب نفسها التي تعلمتها، وبدأ أشعر أنه هذا الذي اصنعه محاكيا من علمني بالأمس ليس بالأسلوب الأمثل، لكن من أين لي الخبرة والعلم الكافي لإحداث التغيير؟
انتقل زميلي الراحل إسماعيل النجوم إلى الأردن للتعليم فانتقلت الأسئلة معه الى هناك، صحيح أن الأساليب التربوية التقليدية لا تشجع، لكن ظل السؤال التعلمي قائما. وكونه لم يجد البديل فقد استمر تعليمه قريبا من السائد عمليا بعيدا عنه قلبيا وعقليا. ولا شك فإن هذا الشعور أرق زملاء وزميلات كثيرين.
عاد الى البلاد، والتقينا كمعلمين في مدرسة الكاثوليك برام الله التي ضمت كوكبة من المعلمين المتميزين، وقد أخذ إسماعيل عمليا بتعميق ما أحس به كتربوي، عن طريق الوصول الإنساني والمعرفي من خلال سياق حياة الطالب وتجاربه وخبراته الخصبة التي يغفلها الكثير من المعلمين.
تجربة المباحث في مركز تطور المعلم-المورد، كانت تجربة مهمة لنا، حيث كونا معا لجانا لكل مبحث يشترك في العضوية معلمو ومعلمات المبحث للصفوف المختلفة، من أجل تنسيق عمل المعلمين فيما يخص كل مرحلة على طريق التراكم والتكامل، وبحث المشاكل والحاجات، وكان لذلك دور في تطور العملية التربوية، وأصبحت هناك مرجعيات تربوية ضمت في ثناياها بذور أولية في تبادل الخبرات والمعلومات، ومن المهم أن ذلك جرى في وقت كانت البلاد تعيش أحداث الانتفاضة الأولى وتراجع التعليم. بالنسبة لي انضممت إلى هذه الحلقات في أول عملي كمعلم عام 1993...
وفي يوم طلبت مجلة إيطالية من حلقة العلوم التي نشط فيها إسماعيل تعنى بالبيئة نشاطات طلبة في الموضوع البيئي، وعند تنفيذ النشاطات لاحظ زميلي متعجبا كيف اندمج جميع الطلبة في النشاط حتى أولئك الذين لم يكونوا يشاركون في الصف أو الطلبة الذين كانوا يشاركون بشكل محدود.
انقلب الطلبة 180 درجة.
لقد تم تكرار ذلك بنجاح في نشاطات أخرى مثل المياه العادمة للمستوطنات وأثرها على البيئة، واندفع الطلبة فيه بنشاط معلوماتي، ساهم في زيادة إقبال الطلبة على العلوم وعلى المعلم.
ليس من العجيب وليس من السحر اكتشاف حب الطلبة التعلم من خلال الحياة اليومية.
"لم أكن وحدي ممن بدأ يحس أن هناك ضرورة لتطوير الدرس التربوي، وهكذا ففي بدء الانتفاضة الثانية(غالبا ما يرتبط النهوض الثقافي والتربوي مع نهوض وطني سياسي وفكري) تنادينا نخبة قليلة من المعلمين والتربويين ممثلين لقطاعات التربية في ذلك الوقت وهي مدارس الحكومة، والخاصة، ووكالة الغوث وأسسنا النواة الأولى لمركز تطور المعلم "المورد" والذي فيه بدأنا نكون مجموعات عمل خاصة بالمباحث المدرسية."
يتابع زميلي الراحل شهادته على التعليم في أوائل التسعينيات: كانت الفكرة حول وضع خطة عمل لتعلم الطلبة بدون معلم خصوصا في ظل ظروف الانتفاضة ومنع التجول. واكتشفنا أمرا مهما، وهو الحاجة الى وجود تربوي فني يساعد في التدريب، وأدركنا أنه لا بد من وجود جسم يهتم بالجوانب المهنية لدى المعلمين.
كان التحدي أمامنا هو أن نعترف بأن هناك مشكلة تربوية، لأننا نستطيع أن نتكلم في التربية من منظور سياسي ووطني، لكن من المنظور التربوي كان هناك مشكلة."
نعم الطالب في التعليم التقليدي لا يتعلم (المعلومات) فقط، بل لا يتعلم عدم المناقشة والطاعة الفكرية والرضا بالأمر الواقع الذي يفرضه أسلوب التلقين فحسب، بل يتعلم بهذه الأساليب جميعها التي تدخل في بناء شخصيته، وهذا مكمن الخطر "إن الطرق التربوية من طراز "تقبل هذا ولا تسأل عن السبب"، "تقبل هذا وإلا …" ليست فقط أساليب تتبع في غرس المعتقدات والقيم في أذهان المعلمين، فما من ضمانة لدينا أن دورها سوف يقتصر على دور الوسيلة، ذلك أنها جزئياً على الأقل تعبيرات عن قيم معينة. والشخص الذي يتعلم (س) من الأشياء بواسطة التلقين لا يتعلم (س) فقط، إنما يتعلم بالإضافة إلى ذلك أنه من الجائز (بل ربما من الطبيعي) أن يستعمل الإنسان هذا الأسلوب في تعليم (س)، وهذا بالطبع موقف قيمي (يتعلق بما يجوز أو لا يجوز، بما هو مقبول وطبيعي وما هو خلاف ذلك)"*
واستمر العمل، وجاء آخرون، وتقدمنا أكثر في الدرس التربوي، وحين تأسست وزارة التربية والتعليم، طالب الخبراء الفلسطينيون وغيرهم بضرورة التغيير والتطوير مما عمق وشجع اتجاهنا، والمهم في نظري ليس تعميم الأساليب الجديدة فقط، بل لا بد من أن يتم ذلك عن قناعة داخلية من المعلم نفسه، لأن ذلك يمكن أن يدفعه الى جعل الطالب متعلما مقبلا على الدرس برغبة ذاتية أكثر منها مجرد واجب يتطلبه الأهل والمعلمون والمجتمع.
استمر إسماعيل النجوم في التعليم والتدريب، والأهم في التفكير، من خلال عمله مدير مركز تطوير المعلم"المورد" رام الله، وازداد قناعة بضرورة تعاون المعلمين معا وتبادل الخبرات بينهم وتطويرها اختيارا.
ربما يكون الاهتمام بتطوير أداء المعلم داخل غرفة الصف باتجاه التعلم الفعال من خلال تعليم فاعل هو مفتاح تطوير التعليم في بلادنا.
وليتنا نهتم في نقد العملية التربوية كزرع بذور، فحين نعلم جيدا لن تكون هناك مشكلة إلا إذا اختار المتعلم ألا يكون كذلك.
*من اقتباسات د. رجال بهلول في كتابه التربية والديمقراطية، سلسلة ركائز الديمقراطية، مؤسسة مواطن لدراسة الديمقراطية، 1997.