بقلم: د. صبري صيدم
المتتبع للفضائيات العربية يعجب لمواقف البعض من حولنا في عالم الانتخابات، ممن سبق أن احتلوا مواقع مرموقة، ويرغبون في ترشيح أنفسهم من جديد، ويصرون على شعارات رنانة وثورية، تبدو في ظاهرها تجديدية مهمة، وفي باطنها إعادة إنتاج لما اعتدنا عليه في العالم الثالث.
كما أن النزعة الشخصية بالترشح، أو معركة «الأنا» لدى هذا البعض، إنما تساهم في تعزيز قدراته الفائقة على تغليف حجته بما يكفيها من كلام معسول، وتبريرات براقة، وحجج وطنية ثورية نارية جاذبة، في محاولة مستميتة متجددة لتقديم ذاته/ في نهاية المطاف وبصورة يريدها هو/هي لإسناد ما يساق من شعارات مرفوعة.
فالبعض ممن تبوؤا مواقع عدة في تاريخهم المهني يحدثوننا عن التغيير، ويطرحون أنفسهم، ويحدثوننا عن الشباب ويطرحون أنفسهم، ويحدثوننا عن فسح المجال أمام الغير ويطرحون أنفسهم، ويحدثوننا عن تجديد الشرعيات ويطرحون أنفسهم، ويحدثوننا عن الحكم الرشيد في العالم المتطور، وعودة الشباب إلى قيادة الدول ووزاراتها ومؤسساتها، وأيضاً يطرحون أنفسهم.
بل أن البعض لا يدخر أي وسيلة للترويج لذاته، خاصة عبر وسائط الإعلام الاجتماعي على تنوعها، سواءً عبر صفحاتهم أو مقالاتهم أو حتى أفلامهم الدعائية القصيرة، من دون أن يقتنع بأنه قد استهلك تماماً، وأن الخط البياني لأدائه المهني قد تسطح منذ زمن، وأن شعاراته باتت «محروقة» ومكشوفة وجوفاء.
الأنكى من هذا كله هو تمادي البعض في لعن الظلام، والادعاء بأن لديه حلولاً سحريةً لمشاكل الكون، من دون أن يعطي لنفسه فرصة من الزمن، فيراجع أداءه السابق ليعرف قدر نفسه وما يستطيع فعلاً تقديمه. فشتم «الظلام» الملعون لا يمكن بالضرورة أن يوفر إمكانية مثلى لفكفكة طلاسم ذلك الظلام، أو إنهائه. فكم من طبيب قادر على تشخيص المرض، لكنه لا يمتلك الخبرة الجراحية لاجتثاثه؟
هذا المقال لا ينتقص من قيمة أحد المهنية، ولا من تاريخه، ولا من حقه الديمقراطي في خوض العملية الانتخابية، وإنما فرصة لتنبيه أصحاب ذلك النهج بأن ما يقومون به لم يعد ينطلي على أحد، خاصة أنهم سبق أن شغلوا عدة مواقع مرموقة، وقد رشحوا أنفسهم لانتخابات برلمانية أو حزبية سابقة، وربما بلدية ولم يحالفهم الحظ.
لقد تغير العالم الذي عهدناه، وتغيرت معه وسائل التواصل وديناميكيات العمل المهني وسبل تقديم الذات ووسائل الترويج والحملات الإنتخابية، ومعها تغيرت الطرق التقليدية في التعامل مع المرشحين، من حيث التاريخ والخبرة وتحليل المواقف المتعاقبة على اختلافها.
فتشخيص معالم أداء المرشحين ونهجهم وخطواتهم المرتقبة، لم يعد أمراً معقداً، إذ يكفي أن يقضي المرء دقائق بسيطة على محركات البحث والصفحات الشخصية، ليعرف خلفيات المرشح وتفاصيل حياته وتاريخه المهني ومواقفه من عدة قضايا، بل إن الحياة الشخصية أيضاً باتت كما الكتاب المفتوح من حيث كثافة البيانات وتنوعها.
خطاب الأمس لا يصلح لليوم وخطاب اليوم لم يعد قادراً على استمالة الجيل الشاب، إن هو تبنى مفاهيم الإطالة والإنشاء والشعارات وما يعرف بالخطاب الحجري المتكلس.
وعليه فإن الطريقة التقليدية في تشخيص العلل لم تعد كافية لإقناع الناس بالقدرة على الحل، فالجميع لديه قدرات خارقة على التشخيص، ولكن ليس بالضرورة أن يعرف سبيلاً للحل، تماماً كما المشجعين، الذين يشاهدون مباراة لكرة القدم، أو حلقة للمصارعة، أو نزالاً للملاكمة، جميعهم قادر على شتم اللاعبين ولومهم وتذنيبهم إن هم قصروا، لكنك إذا ما طلبت منهم النزول إلى الحلبة أو الملعب لتنفيذ ما يسدونه من نصائح لوقفوا مذهولين غير قادرين على الحراك.