الأستاذ محمد قراقع... فلسطين.. بيت لحم
لعل اجتياز الحدود صار من الأعباء الثقيلة خاصة في الزمن الكوروني الذي نعيش ، والأصعب من ذلك اجتيازها الى بلد عربي حر بحجم سوريا الشقيقة، وعلى مقربة من تلك الحدود تنبري أصوات لها هزيم الرعد تتحمل مسؤولية العبور الفكري وتتجشم وعثاء السفر الأدبي الى روح القارئ العربي، وغير بعيد عن فلسطين ومن على ربوة من ربوات جبل العرب في مدينة السويداء السورية يتسلق شعاع ادبي شجرة تفاح ليطل علينا بنتاج ادبي جديد تقوم على تبنّيه ورعايته وسدانة كعبته ثلّة من فرسان الفكر والثقافة جمعهم سقف ( ملتقى السويداء للقصة القصيرة جدا ققج) ، هذا السقف الذي تحمله عمد متجذرة في ثقافتها الفاتنة ومشوارها المميز في فن القصة القصيرة جدا وغيرها من الفنون الادبية من شعر ونقد ومقال، ومن هؤلاء الفرسان الدكتور الناقد فندي الدعبل ،و مؤسس الملتقى الأديب زياد القنطار والكاتب زيدان عبد الملك والاديب فادي سابق والكاتب كمال السليم والاديبة رنا نصر والاستاذ الشاعرنزار الشوفي وردينة نصر الشاعرة الساطعة ونسرين الحسين وسعيد عزام ومي عبد السلام والدكتور فادي سابق والكثيرين من نبلاء الحركة الأدبية السورية الشقيقة .
وقد اخذ هؤلاء الادباء على عاتقهم النهوض بفن القصة القصيرة جدا ونقدها وتشذيبها ورعايتها ونشرها كفن ادبي مستحدث يتماهى ببسالة مع الفكر الحديث ويستلهم قضايا الوطن والمجتمع في اختصار للحكاية ومواءمة للواقع التكنولوجي الذي نعيش في عالمنا، وقد راح ملتقى السويداء ( ققج ) ينحت من الفكر الناهض للكاتب والقارئ على حد سواء ايقونة جديدة من ايقونات الادب المعاصر ، فراح يطور الأفكار ويرصها مستلهما روح الثقافة العالمية ومكملا دورها وكأنه امتداد لريشة ( ارنست همنغوي ) ومونتيرو وتشيكوف وغيرهم من الادباء الذين اسسوا لهذا الفن في العالم .
وكأني بملتقى السويداء بأدبائه الأفاضل يتلقفون قصة همنغوي ذات الكلمات الستة ( للبيع: حذاء طفل لم يلبس قط ) ويقررون ان يكونوا رافعة حقيقية لهذا الفن .
ومن خلال متابعتنا لما يصدر عن ملتقى السويداء لا بد من التعريج على نصوص من نتاج هذا الملتقى ، في إشارة الى المحتوى الفكري والرسائل التي تصوغها هذه الأقلام عبر فن القصيرة جدا.
نص للدكتور زياد القنطار بعنوان (فعلى أي جانبيك )
قامت ،....فكنت أول الذين بعثوا واخر الواصلين .. عندما اطبق على يديّ عسس الاله ..طبعوا خاتما دائريا فوق جبيني..... ( جهنم) في الطريق اليها تمر ومضا..خيام متراصة .. طوابير جائعين، وبيادر قمح مشتعلة ..وصلت .. نفضت الغبار عن عينيّ امام لوحة بلون وردي رسم عليها بخط أنيق : الوطن يرحب بكم
أربعة اسطر تختصر حكاية وطن يشتعل بالحروب وتدميه الاظفار الجارحة وتحيله الى جهنم من الجوع والضياع، في تكثيف موجز ورصّ متكامل للحروف وتوظيف ابداعي للكلمات التي تكون جسرا لمتابعة النص بِحِرَفيّة عالية وصولا الى جملة التأزيم بعد الفاظ بنّاءة بشكل متصاعد في متن النص لتقود الى الوطن...
نص للاديب كمال السليم بعنوان ( عيد )
أمي.. اريد هذا الفستان الأحمر ، تجاهلتها..بكت الصغيرة..تشد على يد أمها .. تستجديها ..في ضجيج المدينة .. تهمس لها : الخبز أولا !!!
بنظرة سريعة الى هذا النص نجد الابداع يتجلى في اختزال المشهدية الدرامية في حوار مختصر يجعل القارئ مشاركا فاعلا في صياغة المشهد وتحريكه ضمن اوجاع البشرية واعطاء الشهد حدود الزمان والمكان التي تبرّأ النص منها ليكون النص لكل الاماكن والازمنة وحيث وجد الفقراء.. جاءت العبارة مدوية في الخاتمة وكأنها تدق أبواب المترفين في عالمنا أن : اصغوا الى امنيات الأطفال.
نص للدكتور فادي سابق بعنوان ( نسيان )
الى مثواي الأخير .. رافقني جوالي ..لم يكن خبر وفاتي ذا أهمية كما اعتقدت..محطة حزن قصيرة ثم .. وحدها .. لا تمل الاتصال بي امي.
ابداع يختصر نبض الام في صياغة مرموقة تليق بقلب الام ، اذا يحمل الكاتب المتلقي الى ابعاد مجهولة ثم يفاجئه بالتفات صارخ الى الأم في تصعيد غير متوقع وحضور طاغ للأم.
نص للاستاذة رنا نصر بعنوان (موت اخر )
طافت روحه تتفقد المكان..على باب منزله رجل يصرخ بوجه زوجته مطالبا بالايجار..جاره البدين خلف الستائر يلوح بورقات نقدية .. تسارعت نبضاته، انتابته نوبة قلبية ..بكت على زوجها دمعتين .. صاحت .. هنا يدفن الشهيد مرتين...
بعنوان موح ومستويات شاهقة من التراكيب اللغوية اثثت الكاتبة هذا المشهد الموجع في مجتمعاتنا والذي بنته على الإيحاء في محاكاة واقعية لما يدور من تنكّر للدماء الحقيقية .. وقد قاربت بلغتها اللغة الشعرية المرغوبة وحفّزت المتلقي ليكون شريكا حقيقيا في بناء المشهد وتحليله.
نص بعنوان (ميراث ) للكاتبة مي عبد السلام
اختصمنا عند اقتسام غلة البيدراشهر مديته..صوّبتُ بندقيتي..هادنته للغد ..قبيل الفجر سبقتني اليه الغربان ..بعود محترق ارسمُ فوق الرمل وجهَ اخي ..
في تكثيف حِرَفيّ وشحن لغوي تختزل الكاتبة قضية الطمع والصراع على اقتسام الأملاك بين الاخوة.. وقد قاد الكاتب دفة الاحداث بتقنية بلغت مداها الموجع في تصعيد جملة النهاية التي تؤكد قدرة الكاتب الباسقة في إيصال رسالته الإنسانية والتي تمهد الى تحقير الصراع مقابل العلاقات البشرية
نص بعنوان : (حقد مسافر) للشاعرة المبدعة ردينة نصر
تحابّا كعصفورين..ذاع سرّهما.. سكين اخيها الثائر تكفّل بهربها..بعد سنوات لا تحصى..ممرضة بارعة في المخيمات.. في ممر ضيق جلبة ضجّ بها المكان.. نقّالة تحمل بطلا شوّهته الحرب..همس احد الرفاق: ارجوك لا تسمحي له ان يموت..كطائر رؤوم اطعمته الحياة..ما بين جراحه وبلسمها الشافي ..لاحت لأخته رابطة الدم.. واستفاق الذئب النائم
ها هي صرخة هذه الشاعرة تجلجل في صدأ العقول التي تحجرت على مفهوم الثأر وقضايا غسل الشرف التي اودت بارواح طاهرة .. وها هي الشاعرة تستبسل في تكثيف مشاهدها لتتنقل ببراعة الرماح الردينية بين الاحداث في تصعيد مركّز لتقود نقطة التأزم بذكاء وقّاد الى المواجهة الحتمية بين البراءة وذئبية هذا العالم المتحجر .
وبعد.. هذا غيض من فيض لا تتسع المقالة للوفاء بالدور الريادي الذي يقوم به رواد ملتقى السويداء في فتح باب النهضة بهذا الفن العريق .هذا الفن الذي يعمل ملتقى السويداء قصارى جهده ليكون جنساً أدبياً مستقلاً وجعله ادبا حاملا للعناصر الدرامية الوفيرة التي تستلزمها روح القصة القصيرة البعيدة عن السرد الممل واعتباط الاحداث اللامنطقية .. قصة قصيرة جدا من بضع جمل تؤتي اكلها وتنأى بالقارئ عن الاطناب اللغوي والتكرار الممل في اقتصاد لغوي مدروس واشارة تقنية الى الكلام المحذوف ضمنا بعيدا عن الغموض .. واجمل ما في هذا النمط الادبي هو ترصيص الالفاظ في اماكنها وجعلها جسرا يسهّل العبور لما بعد النص..
ويبقى السؤال : هل نحن أمام جنس ادبي مستقل تماما له مفاهيمه ومداراته الواسعة والتي تستطيع أن تخلق من القارئ اديبا وكاتبا مساهماً في رفد الأحداث بالفراغات التي يتركها روّاد القصة القصيرة جدا ؟