الكاتب: تحسين يقين
"زي إيدين الولاد الصغار"، تلك كانت كلمات أطفال عن أوراق التين في بداية تشكلها، وهم إنما قصدوا أي الأطفال الأصغر منهم: أخوتهم وأخواتهم، وأطفال آخرين؛ فكيف سأنسى كلماتهم كلما مررت قرب أشجار التين في أول الربيع، وهي تشع أخضر أوراقها، "كإيدين الولاد الصغار"؟
لا تأتي البلاغة من الكتب بل من الحياة، بل من البشر، ومن خلال لغتهم كتب البلاغيون كتبهم؛ ففي البدء كان الناس، ومنهم الأطفال. ولا تأتي البلاغة كذلك من البشر، بل من الطبيعة، هكذا هتف محمود درويش حينما رأى "عشب على حجر".
إن أوراق التين الصغيرة بليغة في ذاتها، وجميلة، وتشكيلية، تحتضن العين والفؤاد، مبشرة بظل ظليل وثمر، كان محل قسم: "والتين والزيتون".
كانت الأرض تُحضَّر حلتها الخضراء، حين مررت ومجموعة أطفال بالقرب من أشجار التين الكبيرة على جانبي الشارع قبل متنزه رام الله التي ارتفعت أغصانها لتلامس الطريق. هتف طفل يصف الوريقات الصغيرة على رؤوس الأغصان: مثل إيدين الأولاد الصغار، عاقداً الشبه بين الوريقة بشكلها غير المكتمل بكف الطفل..
ظل هذا التشبيه يلامس شغاف قلبي، ولم أجد أجمل منه ولا أبلغ. إذ ماذا سنجد أجمل منه! لقد صدق الطفل في تشبيهه واختياره من واقعه الخاص.
أيدي الصغار، ظلت تلاحقني أثناء نشاطاتي في الإشراف على جوانب ثقافية وفنية في المخيمات الصيفية وجمعية القرية في بداية عهدي في التعليم وأدب وفنون الطفل. وحين عملت في وزارة التربية والتعليم، كانت توجد تينة ضخمة مكان المبنى الإضافي الجديد مقابل مكتبي، حيث كنت أعمل في الإعلام التربوي، وكنت فقد كنت بالطبع أظل مع الأيدي الصغيرة التي كانت تطل كل ربيع، ولما كان العمل في مجال التربية والتعليم وثقافة الطفل وتكوينه، فقد كنت أتساءل دوماً: هل نتعامل كما ينبغي مع الأيدي الصغيرة .. أطفالنا ؟
حين هتف ذلك الطفل الذي قال كلمته ومضى بهذا التشبيه، أذكر انه أخرجه كأنه يشجع أوراق الشجر ويحنو عليها كما يحنو الكبار على الصغار.
لم يدر ذلك الطفل ما فعله بي حتى الآن، تربويا وفنيا وإنسانيا، لم أعرفه، لكن كان فعلا ضمير الأطفال الحيوي والأجمل مثلهم.
منطق الأيدي الصغيرة كما تعلمته من طفل مرّ بسرعة، جعلني أطيل النظر في التشبيه كأديب وكاتب، كما جعلني أفكر في التشبيه من نواح تربوية واجتماعية.
لسان حال الطفل أن هذه الأوراق بحاجة لرعاية وتشجيع حتى تكبر وتصبح قادرة على الحياة وحدها، كأنه يحكي عن نفسه كطفل ونحن نصاحبهم أثناء مرورهم لحمايتهم من السيارات المسرعة.
الكبيرات في السن ومنهن أمي وخالاتي وعماتي ونساء القرية.. كنّ يعلقن بحنان على طفل وهو يحمل حملاً أثقل من عمره: "يا حرااام ايدي صغار" أو "ديتة صغيرة"، ودية تعني تصغير يد.. وكنت أكمل العبارة "ولا تتحملان بعد كل هذا الثقل".
فهل أخذنا رأي الأطفال فعلاً فيما يتعلق بحياتهم ومستقبلهم؟ وهل أشركناهم في عملنا وخططنا تجاههم؟ أم سنقول دعهم فما زالوا صغاراً؟
غريبة هي النظرة المجتمعية تجاه منطق الصغار!
غريبة وخاطئة هي النظرة المجتمعية للأطفال فعلاً!
ماذا يضير المعلم أو المربية إن اقتربا من كل طفل ومنحوه الحب، وأشعروه بالأمان!
إن سقف تمنيات الطفل سقف بسيط نستطيع إرضاءه بأقل الأشياء، بل بأقل الحديث، بأسلوب محبب له..
هو يأتي إلى الروضة والصف الأول حتى يستمتع ثم كي يتعلم..التعلم هو المكان الثاني والهدف الثاني!
نحن نركّز على التعليم كهدف أول وثان وأخير!
فإذا ضمنا أن كل مشرع ومخطط في مجال الطفولة يضع أطفاله الموجودين أو الذين سيأتون، أو أحفاده، أو أحفاد أحفاده نصب عينه وفكره وهو يعمل سيكون الغد أفضل!
وإذا تذكرنا أنفسنا حين كنا أطفالاً بأيدٍ صغيرة في يوم من الأيام سيكون الغد أفضل، على ألا ننسى أن "أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الأمس" كما قال جبران. وكما قال على بن أبي طالب "فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
إذا عرفنا عيوبنا وآمنا أنها عيوب، ولم نورثها لأطفالنا سيكون الغد أجمل!
إذا تذكرنا دوماً أن أيدينا كانت صغيرة، لكنها كانت كاملة الأيادي سيكون الغد أفضل!
حين نظرت للوليدين التوأمين قبل عشرين عاما، فإن أكثر ما تفحصته أيديهما.. الكف وأصابع كل كف، حتى الخطوط داخل كل كف... تذكرت ما قاله طفل صغير لنفسه يوماً عن أوراق التين: "مثل ايدين الاولاد الصغار"...وما قالته سيدة كبيرة: يداه صغيرتان.
هيا نمسك بهما ونقويهما ونسير معاً!
كل واحد منا يتذكر طفولته، لكن التربوي عليه أن يتذكر ليقيس الحاضر على الماضي، وبقليل من موازنة المعادلة، بإضافة متطلبات وشروط العصر، نكون قد خطونا خطوا لا بأس به باتجاه تلبية حاجات الأطفال..قبل المدرسة وخلالها!
الطفل قبل المدرسة هو كيان مهم، وكذلك وهو في الروضة، أكان ذلك في صف البستان أو التمهيد، فلا بدّ من الاعتراف بهذا الكيان حتى ولو كان صغيرا وبريئا!
الصغار يحبون القص كثيرا، وعلينا تعليمهم بالقص، فكلمة السحر وجلب الانتباه هي أن تقول : مرة في واحد.........!
ليس هناك كبير فرق بين طفل الروضة وطفل الصف الأول، سوى في القدرات والمهارات الحياتية، والسيطرة على الجسد، أما الروح والعقل فقريبة، حيث ما زال الطفل يربط الخيال بالواقع ويخلطه، أو قل يختلط عليه، فيروح ليحاكي عالم الكبار مثلا بأسلوبه الخاص..
فحين نستقبل طفل الروضة في الصف الأول، ربما علينا أن نسير معه كي يكتشف النظام الجديد ليتقبله بدلا أن نفرضه عليه، كذلك ما علينا لو عرفّناه على المدرسة كمكان جديد، قبل أن نعرفه على القوانين!
ثمة اختلاف في نظريات التعريف إذن!
فبدلاً من التعامل الإنساني مع الطفل كإنسان له حاجات ورغبات وآراء، فإن معشر الكبار هم المقررون عنه، والأوصياء الأمناء على كل ما له علاقة به، من تربية وتعليم وثقافة ورعاية وإعلام وفنون وترفيه وطعام وشراب.
كل ما أوده للصغار في الرياض والصفوف الأولى ألا تقمع أفكارهم وأخيلتهم، وأن يعمل التربوي على تقريبهم من بعضهم بعضا، كي يحبوا بعضهم ويحترموا الزملاء، ليتعرف كل ولد صغير وكل بنت صغيرة أنه لا يعيش بمفرده، وأن المكان هو شراكة لنا جميعا، وأننا أسرة جديدة..
ترى ..هل هم في أذهان الكتل الكبيرة والصغيرة؟ هل سيكونون فعلا في بال المخططين والمسؤولين والمشرعين ونحن على أبواب إعادة بناء نظامنا السياسي؟
نأمل لأنهم الحياة، والوطن إنسان وأرض، فهل من استجابة لأحلامهم وحقوقهم؟ هل سنساعدهم في دخول المكان والعصر من أجل المستقبل؟ هل سنحررهم من عيوبنا؟ من يمتلك الإجابات بقلب حنون وعقل متفتح وبمسؤولية وجودية؟
لنا وللأطفال أمل قادم ليتحقق.
لأيديهم الصغيرة وبلاغتهم كل الحب..والعمل الجاد..