د. إياد إشتية
إرشاد نفسي تربوي
أكاد أجزم أن كاتب رواية مدينة الحب لا يسكنها العقلاء كان قد استحضر القدس في مخيلته، حين بدأ بخط حروف روايته، فكانت كلماته الأولى "..، لم أشعر أبدًا بأني أحبكِ إلا حين أفترقنا، لهذا حاولت جاهدًا أن أصل إليكِ لأخبركِ بذلك، فهذا أقل ما يجب علي فعله نحوكِ"، هو الشعور بعينه الذي يتملك ثنايا روحك حين تشتم نسيم القدس العليل.. تشعر أن محبوبتك الشقراء بأبهى صورتها وجمالها المتجدد.
مناجاة قلب وتنهيدة روح في حب مدينة وسط زحام الكون، يليق بها هذا القتال.. كيف لا وهي الاستثناء، من شقراء صخرتها ظلال قبة تسند عثراتنا وانكسار النفس في دواخلنا.. لصوت أجراس قيامتها ترنيمة بقاء وملاذاً للسكون.
القدس هي عروس الاختيار في وسط الزحام، جعلتنا استثناء.. جميلتنا التي شدت على أيادينا في باب العامود حين أوشكنا على السقوط، تقبلتنا بنقصنا وأحبتنا بعيوبنا.. جعلتنا نحب أنفسنا من حبها لنا، أحببنا البلاد لأجلها، كما لم يسبقنا في حب البلاد أحد، فهي رأت الجمال فينا حتى ونحنُ في أسوءِ حال، تحملت منا انتظار السنين.. وكأنها كانت حلم في مخيلتنا..
من اللحظة الأولى التي يداعبك فيها نسيم القدس.. وأنت تطل على سحرها الأفقي أمامك كالؤلؤ المنضود.. تشعر أن برمجتك النفسية قد أعادت ضبط نفسها، تجد نفسك تذهب إليها حيث يأخذك الحب.. وحين تغادرها تستمد منها الحب الى حيث أنت ذاهب..وأنت تقف على إحدى تلالها وتحتسي بشغف قهوتك الكنعانية وتطيل النظر إلى إضاءتها الخلابة تدرك ذات مرة أن الجمال خلق مقدسي.. وأن القدس وطن.. مملكة للحب والسكينة، غذاء للروح، تنحني لسحر اطلالتها كأنثى متجددة لا يغيب عن وجنتيها الورديتان الخجل، كنسمة صيفية مشرقة، كقمر يشق تفكير العاشقين في ليلة حب واشتياق.
القدس توقظ فيك الرغبة في البكاء فجأة وأنت تنظر إليها..أو تمشي في شوارعها، وقلبك عامر بالأسئلة، وأنت تصغي إلى خطوات كل من مروا من هنا بالأمس، وقبل الأمس وقبل ألف مما يعدون..
في القدس وأنت تمشي في شوارعها تسأل نفسك هل الحب والرومانسية لهذا المكان وهذه المدينة مشاعر زائفة وممكن أن تموت؟ لماذا نجد أحياناً أن ذلك الحلم الذي رسمناه في مخيلاتنا مع قدسنا التي نحب يوماً ما قد إندثر وتبعثر؟ رغم أننا نعيش تفاصيلها هنا والآن؟ هل هي كيمياء الحب كما يقال؟ أم أنها كيمياء القدس التي تغير في ذاتنا الكثير، كهرمون انجذاب إليها..بشوارعها وأزقتها..ببلدتها القديمة، بساحاتنها بمقدساتها.. بحبها وشغفها ..بحزنها ووجعها وألمها، بكل تفاصيلها!
القدس أنثى شقراء تختزل كل النساء في حيائها، حين يرفع الآذان في أقصاها.. وتدق أجراس العودة في قيامتها، القدس حوض الورد المتوّج على ناصية الشبابيك، وعلى حافة القلوب التي تؤمن ألا وطن خارج تفاصيل شتلة نعنع يضعها المقدسي على شباكه كتميمة الوجود والبقاء.
القدس للحالمين الذين يولدون بحب وهم مقتنعين أن الكرامة والعشق السرمدي للأرض يعيشان معاً إلى الأبد، لا تفرقهما قبعة مستوطن سمراء كسواد قلب مهاجر أبن أمرأة وألف ذكر، لفظته الأرض واستوطن القدس بلا استأذان..
القدس حجر نرد.. ولاعب نرد كدرويش.. ودخان نرجيلة من سبعيني قلبه يعشق قدسه بحرارة الفحم على تبغه، يقلب في عينيه وهج أحجارها المصفوفة كلمعان قبة الصخرة، هي عاصمة المحبين والعاشقين والبسطاء الصامدين الصابرين، الذين يجدلون ظفائر صغيراتهم الجميلات الحرائر كل ليلة في المصرارة وعلى درج باب العامود..
على سور القدس حكايات وتفاصيل.. تعاش ولا تحكى.. كرواية ممنوعة من النشر..
وانت تغادر القدس.. تتملك روحك غيره قاتلة، وغصة بالقلب وكأنها وقف النبض، فعنفوان شموخ يبوس يزيد عاشقها قوة وحنين، يكون أناني بها ولا يقبل أن يشاركه فيها أحد، وأنت تغادر القدس.. لا تنسى أن تخبرها بأن قمرها انعكاس رواية على ناصية التاريخ، وأنك لا تشعر بالحياة الا بظلالها.. فالقدس ديدن العاشقين الحالمين.. قرار هي وليست بقدر أو نصيب...سلاماً عليها ولها حتى مطلع الحب..