الكاتب: صادق الخضور
بحبر الروح الممتد قبل أن يكون مدادا، ومن على صفحات قلوب أبنائها وبناتها، تطلّ القدس، لا اعتراها تعب ولا وميض فوانيس كبريائهم خفت، فكل مقدسي بات بمثابة"دومري" ينير لنا عتمة الطريق، لتطلّ القديس من جديد، وكلما أريد لها أن تغيب توهجّت حضورا.
بواباتها ممرات نحو الروح والعثور على الذات، فأنت في القدس لا تتحدث عن حجارة مجردّة وجدران، بل عن كتلة صلبة من الأحاسيس، وكنّا اعدنا ألا تكون المشاعر كتلة صلبة، لكنها في القدس كذا كانت، فحجارة السور مشرعة على كل منابع الأحاسيس الدافقة، والخطى الواثقة، والمدينة التي كانت ذات يوم سلمّا للمعراج، جعلت من درجات باب عمودها سلمّا للكبرياء الذي يطاول عنان السماء، ووحده درج القدس يشعرك بأنك صاعد حتى ولو كنت تنزله، فالحد الأدنى للأدراج كبرياء، وأنّى كانت وجهتك، صاعدا أو هابطا يظل الصعود سيد الموقف.
القدس تمتد... تمتد في ثنايا الروح، في ماضٍ ولّى فما توارى، وفي حاضر صعب لكن جميل متى ما ارتبط بالقدس، وفي مستقبل نستشرف ملامحه.
القدس تمتد..في عبق التاريخ وتضاريس الجغرافيا وخبايا الزمن، وفي كل تعرجّات التاريخ، وممتدة امتداد التآخي الذي لا حدود لمساحاته، فهي مرادف للتآخي، كذا كانت وكذا ستبقى، وفي باب أسباطها أعمل المحتل سياطه، وما بين سوط المحتل وصوت ابنها انتصر الصوت، وفي قلب حيّها الذي يحمل اسم الشيخ جرّاح توالت جراح،ونزفت أزقتها لكن الجرّاح قادر على مداواة الجراح.
تعاود القدس تحليقها في أحواء النفوس ، وتصر النوارس على العودة للمكان حيث الزمان يؤرخ لذاته بوقفات المقدسيين ومواقفهم، هي مواقف أكبر من كل فصيل، وأكبر من كل مناكفات، أكبر من كل ما هو خاضع للتقزيم والاختزال، أكبر من تجيير هذه الوقفة لهذا أو ذاك، أكبر من كل أفق ضيّق.
في القدس تتولّد المعاني وتغدو الدلالة أوسع من كل المعاجم، فالأزقة تتسع وهي التي لطالما عبرت عن ضيق المساحة، والنهايات دوما تؤسس لبدايات، والسور وبدلا من أن يحد من قدرة المدينة على التمدد، يمنحها زخما إضافيا للتحليق والانطلاق، وقِدم الأماكن أصالة، والأصالة بقاء، ولبقاء نقاء ...هي معان لا تتجلى إلا في القدس.
القدس....كل بوابة من بواباتها عبارة عن بوق صادح بأجمل الألحان، الود والورد تنسج معا لوحة زاهية من لوحات مدينة لطالما استعادت كبرياءها، وارتدت رداءها المطرّز بعبق التاريخ، فالقدس لا تشيخ، وشعلة الدومري تواصل اللمعان حتى في أحلك الأوقات عتمة.
من على شرفة كبريائها نثرت خواطري. مسترجعا بعض ما قالته فدوى طوقان ذات يوم: أكتب؟ ماذا أكتب؟...لكننا على كل حال وحين نعجز عن الإجابة فلا ضير من ترديد السؤال، أصلا نحن تهنا مذ أضعنا القدرة على التساؤل والسؤال، وعبثا نحاول العثور على ما ضاع منّا فينا، ووحدها القدس وحتى وهي في عز الأنين تثير فينا بعض الحنين، ونمضي..إلى أين؟ لا ندري..كل ما ندريه أننا هنا حيث كنا منذ الأزل...فهنا كنا ولمّا نزل...والقدس تبقى هي القدس...بغضّ النظر عمّن بها نزل....فلن نرثيها مهما تكالبت عليها الخطوب، فهي معشوقة لا يليق بها إلا الغزل.