الكاتب: تحسين يقين
يمنحني الأدب والفن الأمل كل الأمل بمستقبل جميل ورائع، وهذه المرة سنكون مع صوت عربي من مصر، صوت إنساني جميل يجمعنا دوما.ِ
حين أعيش فأرى وأسمع دراما الحياة، اتخيل موسيقى ما، أكاد أسمعها، هي من وحي ما تابعناه كمشاهدين للدراما السينمائية والمسرحية التلفزيونية بشكل خاص.
الفنان الرسام، يرى الحياة ظلالا ونورا وخطوطا، بينما الموسيقي، يشعر بها شيئا سمعيا آخر، وهذا ما عمقه لدينا الفنان المبدع الذي نتفيأ ظلاله وصوته؛ حيث صارت موسيقاه قصة وحكاية وقلبا وعقلا.
كيف كانت يمكن ان تكون الدراما بدون موسيقى عمار الشريعي!
ثلاث ضربات من الكمجة حادة يتبعها نفح حنون، يزاد حنانا، فدخول القانون، فالكمنجة ولكن بحنان، فالعود..
عكس الراحل عمار الشريعي حالتي التوتر والحنين لدى شخصية رأفت الهجان، اللتين صاحبته طول الحلقات-الحياة، لسبب موضوعي يتعلق بالحالة الشعورية، لشخصية رأفت-ديفيد، فهو يعيش شخصية رأفت من داخله، لكن عليه أن يجيد تمثيل شخصية ديفي شارل سمحون الى ابعد مدى خشية انكشاف أمره. فهو دائم التوتر من داخله، وأيضا فهو ما إن يخلو لنفسه، حتى يثور لديه الحنين للأهل والوطن.
يبدأ بموسيقى التوتر والشعور الصاخب، ويكمل بموسيقى الحنان والحنين، ثم بعد عدة دقائق، يزاوج الشريعي بين النوعين، يتداخلان بشكل عجيب معا، بانسيابية، فكأننا إزاءهما معا، باتجاه التعبير عن وجودهما اللحظي، ولعل اللحن الأساسي قائم على هذا التمازج الإبداعي السحريّ.
عاشت هذه الموسيقى، وهي لا شك من الروائع الخالدة، معي ومع كثيرون، حتى كأنها صارت سيناريو سمعيا أغنت عن الكلمات ونافستها. على مدار 3 عقود، وهي تعيش في وجدان من شاهد دراما رافت الهجان، ولا يكاد تمر أيم إلا وأسمعها كذلك موسيقى عمر خيرت، ربما لذلك علاقة بتجربة الإقامة هناك في مصر، حيث تابعت الجزئين الثاني والثالث هنا طالبا، عام 1990 و1991، حيث كنا قد شاهدنا الجزء الأول عام 1987.
أدين لصديقي محمد حواش، من عشاق مصر والدراما والحياة المصرية، بكتابة هذا المقال، فقد اقترح علي الكتابة عن موسيقى رافت الهجان، فترددت، فلست بموسيقيّ، فقلت له لربما نكتب عن تأثيرها علينا.
يمكن لنا أن نصف موسيقى الأعمال الدرامية والتمثيلية بأنها كالملح في الطعام. وحتى نوصل الفكرة، يمكن مشاهدة عمل درامي في بروفات بدون موسيقى ثم مع موسيقى، لنجد أن الأمر مختلف، حيث تصبح الوسيقى عنصرا رئيسيا.
تؤدي الموسيقى دورها التعبيري حين تضع الفنانين والمشاهدين في جو سمعي ينسجم مع جو العمل الفكري والبصري، فهي خلفية غير مرئية للدراما بأحداثها، تقود الإحساس بشكل خفي نحو المشاعر، أو هي المعمقة والمؤكدة على الإحساس، وهي تختصر مسافة الفكر والتحليل لتسهيل العملية الفنية في صقل الإحساس عند المشاهد وإثارة الفكر خلال ذلك.
والموسيقى لدى فنانين كبار كعمار الشريعي رحمه الله، هي شخصية ثالثة، أو راو آخر للحدث، وهي سيناريو آخر للمسرحية، إلا أنه سيناريو سمعي.
لا شك أن اطلع على الدراما مكتوبة، كخطوة أولى، ثم يبدأ في البحث عن توجه المخرج في رؤيته الإخراجية، بالإضافة إلى ملائمة الموسيقى لإمكانات العمل والأجواء التي يعمل فيها. والشريعي في الأصل خريج أدب لغة انجليزية، بمعنى أن لديه مبكرا عمقا أدبيا وموسيقيا.
نشعر ونحن نسمع موسيقى الهجان أن الملحن هنا مدرك للتاريخ والجغرافيا لأن ذلك له علاقة وتأثير في الموسيقى؛ فلا بدّ من لغة موسيقية ملائمة للزمان والمكان والرؤية الإخراجية، لأن الموسيقى تعبّر عن النص والإخراج، اللذين يستدعيان نمطا خاصا من الألحان والأدوات وأداء الألحان، فالموسيقى المصاحبة لرافت في مكان تختلف عن موسيقى مكان آخر، ولم هذا سهلا بالنسبة لمصري انتحل شخصية أخرى.
وما زلنا نشهد ونتذكر أثر موسيقى البداية والنهاية، وكيف كانت تجذب السامعين، بما كانت تفعله من سحر إدماج شعورنا داخل القصة، كذلك في الموسيقى التصويرية التي كانت من روافع المسلسل.
"هو البحر.." كما وصفه كثيرون.
نتذكر أعماله الموسيقية في عودة الروح 1972، و الراية البيضا 1988، و أبنائي الأعزاء..شكراً 1979،و أرابيسك 1994، و زيزينيا ج1 1997، ج2 2000، وأعمال أخرى تلفزيونية وسينمائية ومسرحية. كان ذا انتاج كمي ونوعي فعلا. تجاوز عدد أعماله السينمائية 50 فيلماً، وأعماله التليفزيونية 150 مسلسلاً، وما يزيد على 20 عملاً إذاعياً، وعشر مسرحيات غنائية استعراضية
ثمة برامج ثقافية وفنية تابعتها في فترة الدراسة، مثل نادي السينما وسينما كمان وكمان ، واتيليه واوبرا وباليه، صقلتنا كمشاهدين، بتوعيتنا، ومع تراكم المتابعة، تطور الوعي، ومن هذه البرامج التي استفدنا منها، برنامج "غواص في بحر النغم" قدمه الشريعي، وهو يقوم على تحليل وتذوق الموسيقى العربية لتوضيح جماليات الموسيقى للمستمع العادي. فهل تسمية البرنامج كان بسبب بيت شعر حافظ ابراهيم: "أنا البحر في أحشائه الدر كامنَ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي" أم بسبب أن الشريعي كان سباحاً محترفاً، بالرغم من كونه كفيفا.
شغف عمار الشريعي قاده نحو الموسيقى، حيث تلقى علوم الموسيقى الشرقية على يد مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم خصيصاً للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى.خلال فترة دراسته، وبمجهود ذاتي، أتقن العزف على آلة البيانو والأكورديون والعود ثم أخيراً الأورج. درس التأليف الموسيقي عن بعد، بسبب حبه للموسيقى، عن طريق مدرسة هادلي سكول الأمريكية لتعليم المكفوفين بالمراسلة. كما التحق بالأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقى. كذلك، اقترب من موسيقيين عباقرة مثل كمال الطويل الذي تبناه، ثم تعرف على الموسيقار بليغ حمد، فكان فعلا مريدا ذكيا، استفاد من مجاورته لهؤلاء المبدعين، حتى نحت اسمه بحروف من ماس.
إن إبداعه وليس الشهادات الأكاديمي، جعلت أكاديمية الفنون المصرية تعينه أستاذاً غير متفرغ في عام1995. وليس هذا فحسب، بل صارت إبداعاته موضوعا تناولته العديد من الرسائل..انه الفن وانه البحر..وإنه الغواص.
لذلك، فثمة إبداع خاص عميق شعوريا لديه، يمكننا الاشعور والانفعال أكثر بكثير من التحليل.
ذلك هو بعض عمار الشريعي..وذلك كله الخالد..
وأخيرا، نتذكر في كل عيد لحنه الروحي الجميل لتكبيرات العيد؛ فأية عبقرية لديه تذكرنا بعبقرية بليغ حمدي حين لحن مولاي اني ببابك قد بسطت يدي للنقشبندي..