الكاتب: المتوكل طه
*
وفجأة !
لا، ليس فجأة! لقد صرخ مجنونُ البلدة في الهزيع، مُحذّراً الناس من أنّ الغرباء سيأتون على مراكبهم السوداء، بوجوههم الغوليّة المشوّهة وقرونهم الحادّة وأظفارهم التي هي مخالب ذئاب هرمة، يحملون السواطير والقضبان البرونزية التي تشرّ حدّة، وبملابسهم المعدنيّة المُطْفأة.. سيهبطون على الشاطئ، في ليل بهيم، ينهبون ويسلبون، وسيبيدون القصور والقلاع والمعابد، وسيدخلون البيوت من أوّلها حتى آخرها، سيغرزون سكاكين أيديهم الآثمة القذرة في بطون الحوامل، وينزعون الأجنّة من الأرحام، وسيقهقهون وهم يرفعونها وهي تنبض بالدم الفوّار، وسيلتهمونها، فتتبقّع وجوههم بفقاقيع تتخثّر، فيصبحون أكثر رعباً وتوحّشاً.
قال: سيَدْهمون القرى كلّها ، وسيشعلون الحرائق في البيوت والدواوين والدكاكين والحقول، وسيرقصون على إيقاع اللهّب المسعور، وسيجأرون ويضربون بأذرعتهم الأبواب فيحطّمونها، ويقطّعون رؤوس الشيوخ والأطفال، ويستحيون النساء الصغيرات، وهم يخلعون ضفائرهن فتنسلخ جلدة الرأس وتنبع بالدم الدفّاق.
وسينجو القليلون، ليبدأ المُغنّي بكائيّته من لغة زائغة مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.
سيقف على تلّة في البعيد، لعلّ أرضه تتراءى له، ليقول: كان كلامي العذب مخبأً في عينيك، ولطالما قلتِ لي أن أصيح باسمك عندما أشتاقكِ، وها أنذا أصيحُ.. فلا تأتين!
كنتِ تشعّين بجسمكِ تحت غلالات الضباب، وها أنتِ تنغلقين على سوادٍ تام.
لقد أفقدوك براءتك وعفّتكِ، وأطبق الملحُ على شفتيكِ؟
لقد خرج أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء، ودمهم يتهاطل من أجسامهم، ودموعهم ملء وجوههم . وكانت الأشجار تنخلع عن عَرْشها الأبدي، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم.. وتودّعهم، وتبكي وحدتها مع الصبّار اليتيم.
وظلّ السراج يرتعش في البيوت التي انذبحت، وبقي الفتيل يتغذّى من الدم الذي شخبت به الأبدان والجدران، فعبّأ حوض السراج الصغير، وهذا ما تراه يومض من بعيد في الظلام!
وليس لك الآن، أيها المُغنّي، إلاّ أن تحرس السنبلة التي حملها ذلك الفتى اللاجئ، بعد أن استلّها من حقله، قبل أن يحرقوه، ووضعها في جيبه.
خُذ حبّات السنبلة وابْذرْها في كل الحقول المحيطة بالأرض، لتمتلئ الحدود بالموج الأشقر.
*
يا ليتهم صدّقوا مجنون البلد المبروك، الذي كان يكرز في وحشة الليل، يشرخه بصراخه، محذّراً من الغرباء، الذين سيَدْهمون البلد، ويستبيحونها من كل الجهات، بعد أن انشغلت البلد بنفسها، وتقاتلت فيما بينها، وبطرت، وتقحّمت المحارم، وطاشت ببذخ وإسراف، بدل أن ترعوي، وتشكر الخالق على نِعمه وفضْله. وكان على بلادنا أن تحوّل أخطاءها إلى ذهب.. لكنها لم تفعل.
تشظّى أهل البلد، ونزحوا إلى الظلال وركنوا خلف التلال، وصمتوا وذبلوا، وراحوا يَزْجون أيامهم بالتذكّر والتحسّر على ما مضى من عزٍّ غابرٍ لن يعود، ما دامت سواحلهم كسولة، ترغي برتابة، لم يشقّ عبابَها قاربُ محاربٍ ذو شراع أسود متين. وهناك على السواحل حطّ الغزاة الغرباء، وأقاموا بيوتهم، وراحوا يبحثون عن منابع العطاء والكنوز. وصارت الأرض التي اغتصبوها مكاناً وثنيّاً لإقامة الشعائر الخرافية.
وضاقت البلاد، وانسدلت ستائر مبهمة سميكة من البعيد، جعلت المدائن من خلفها غائمة لا تُرى، وقيل لقد هدمها الغزاة، وتبدّلت، وصارت مدناً أخرى. وانحسر جزء من أهلي في هذا المكان. وتوقّف الزمان.
لكنّ إرهاصة الجمر قد توهّجت، وبدت كأنها وردة أسطورية ستملأ الدنيا بنارها المقدّسة، لتنجو الأرض ثانيةً من اليباب والظلام.. فكانت الفرس التي اخترقت المسافات فانقدح الشّرر من حولها، وأومضت البلاد بأُوارها، وسالت أعرافُ السابحةِ بعسلها الفضي المرشوق، فشهقتِ البلادُ بالنرجس والشقائق والحبق.. واستيقظت الأقواس! فانظروا راية السماء.
*
لا أعرف الحنين ! لأني في البلدة التي أحملها معي في مشاويري، وحملتني إلى عرش الليمون، وما زلنا ضفيرة على أكتاف الحصان.
*
أُطلقُ سنّ قلمي لينعف ما يشاء من البعيد، دون قيدٍ أو شرط، وليلهث كفرسٍ برِّيّة في السهوب، حتى ترنخ أعرافها وتنقط بالعسل المالح، ومثل الريح الغضبى الصرصر، أو الأنسام، لها ما تشاء وكيفما تشاء، فأنا روح حرّة كالريح! ولن ألتفت لأُعيد قراءة ما انكتب، فليكن ما يكن؛ ثلجاً أو ناراً أو هباءً أو عفاريت. ففي هذه اللحظة أشعر بخفّةٍ كأنني أطير، ثم أهبط كأنَّ شيئاً يعضّ قلبي، ويجعلني مليئاً بالمرارة والسّخط والإحساس بالقهر.
وأتحسس رسغي، بعد أن أغلقتُ التلفاز الذي ينعى إلينا، في كل ثانية، ألف ضحية وكارثة، وأكاد ألمس القيد الذي انغرس في اللحم يوماً، فانتفخ والتهب، حتى إذا لمسه الماء أفقد عقلي! لكنني أجد رسغي، الآن، قوياً سليماً. فألمس عيوني التي عصبوها عشرات المرات، إلى أن عايشت أيام المعرّي ووصلت إلى سويداء بصيرته، فأدركتُ أنني كزرقاء اليمامة، وأرى الإبرة عن بُعد ميل! ثم ذهبتُ إلى رجليّ التي كسروا الهراوات عليهما، غير مرّة، وتورّمتا حتى شعرت أن الزنزانة ستضيق بانتفاخهما، وأكاد أكلز عَرجَاً، فنهضت، فوجدتني غزالاً يافعاً لا يلوي على شيء، يتقافز كصدر الفارسة السادرة في الانطلاق إلى ذُراها. وأمضي إلى عقلي، فأجد جمجمة تحميه من نطاح الجدران والقرون والصخر، فأعبث بأصابعي وأفردها بين شَعر رأسي، فتفيض بمشاهد الطفولة والشباب، مروراً بأيام الجامعة والسجن وصولاً إلى هذه اللحظة المُثقلة بالحزن الجليل.
وأقول لنفسي: ما جدوى أن تعود إلى تلك الأيام؟ فلا أجد جواباً سوى أنها جزء منّي ومن شعبي وأهلي، ولها قداسة الماضي الذي يحمل خُلاصةً ما، ولديها القدرة على الإشعاع، بحمولتها المأساوية أو الجسورة، لعل جزءاً منها يساهم في مراكمة الرواية الكبرى التي نؤلّفها جميعاً، منذ ما يقارب المئة عام، بمعنى أن كل فلسطيني مُطالب برواية حكايته، من واقعه وزاويته واختصاصه، دون أن يُصاب بالصَّغار أو يشعر بتفاهة قصّته، أو بتواضعٍ لتواضع ما فعل أو أحدث! وربما يكون هذا النداء موجّهاً لمَنْ يستطيع أن يكتب ويروي ويحكي ويؤصّل ويؤرّخ ويحفظ كل برتقالة أخذوها، وكل ذرة ترابٍ سرقوها، وكل حجرٍ صادروه، وكل جذرٍ اقتلعوه، وكل هراوةٍ وقعت، أو رصاصةٍ قتلت، أو قضبانٍ خنقت، وكل حاجزٍ أَمَات وقَهر، وكل حصارٍ أذلّ وحَشر، وكل إهانةٍ ومَنْعٍ وكلمةٍ ونأمةٍ وحركةٍ وصورةٍ وصوتٍ.. أساءت أو جرحت أو نفذت! حتى تعرف البشرية أيّ مخلوقات هذه التي تحتلّنا وتستلبنا وتصادر أيامنا. وحتى يعرف العالَم كم هو متواطئ وحقير وجبان وصامت ومتآمر. وحتى يدرك كبار العرب والمسلمين كم كانوا، بخوفهم، مشاركين في ذبحنا وفجيعتنا وهلاكنا. وحتى يعرف الجيل الطالع كم دفعنا وخسرنا وقدّمنا، وكم هو مجرم وفاشيٌّ هذا العدو الذي يجب مجادلته حتى النهاية، وعدم مسامحته، أو نسيان ما اقترف وآذى وأمات، أو على الأقل عدم تجاوز مقارعته حتى يتخلّى تماماً عن عنصريته وجنونه ونازيّته، ويعود من حيث أتى.
*
أقول هذا، والكراغل التي بعثها الساحر من تماثيلها الحجرية ، يوم 5-6-1967، تطير من جديد في سماء البلدة، تنفث نارها وتصبّ جحيمها على البنايات والناس في بيوتهم! وأراني صبياً، في التاسعة، أُمسك يد أخي الكبير، وأمشي فوق الشوك والحصى المسنّن، على غير هدى، نركض حيناً، ونهرول حيناً، حتى لا تلحقنا الطائرات، التي ترمي منشورات تدعو أهالي البلدة إلى تركها، وأن يمضوا شرقاً.
هذا سرب طويل من النازحين لا ينتهي، ولا يكاد حتى هذه الساعة! فالنكسة لم تنته بعد! غير أنّ المرأة التي جاءها المخاض، ونزّ دم رحمها، قد أخذتها النسوة تحت الخرُّوبة لتضع حملها، الذي كان أُنثى.. وها أنذا مع الصبية أتلصص النظر، من وراء البطانية التي التفت سوراً حولها، لأرى كيف تلد النساء!
ماتت الوالدة تحت الخروبة وغطّى دمُها الورقَ الناشف المتساقط، وذبلت حتى حفروا لها قبراً ووضعوها، كما هي، دون صلاةٍ أو كفن!
وعادت بعض الجموع، بعد شهرين، إلى البلدة التي كانت قد احترقت وانهدمت، وأرى أُمي، رحمها الله، تدفن رأسها بين كفّيها وتجوح، وألحظ أبي، رحمه الله، يقتعد درج البيت، ساهماً لا يتحرك كأنه تمثال موزّع الأهواء، مأخوذاً بما لم أدركه.. حينها!
*
يتحلّق الرجال حول صندوق الراديو الكبير، يستمعون إلى الأخبار، من إذاعة صوت العرب أو من إذاعة لندن أو غيرهما. والراديو أو المذياع واحدٌ من ثلاثة أو أربعة أجهزة تتوزّع على مقاهي قلقيلية ، بأحجامها الكبيرة وصوتها الداهم المسيطر، والذي يترك حوله موجات من الصدى.
ربما كانت هذه الرايوهات مصدر الأخبار الوحيدة ، التي منها ينهل المحلّلون السياسيون ، وأعني هؤلاء الرجال ، الذي ينبري كلُ منهم .. يستعرض عضلاته السياسية !
ولطالما لمحتُ والدي وقد وضع رأسه على يديه المتشابكتين ، وقد أسندهما على عكّازه ، وهو يستمع لصوت العرب ، باعتبارها منبرالزعيم جمال عبد الناصر ، الذي كان معبوداً لدى عامة الناس والجمهور العربي ، وكانوا يعتقدون بأنه سيُحرّر البلاد ويُعيد العباد ، وظنّوا أن تعليقات محمود سعيد بصوته الهادر ، الذي يتوعّد الاحتلال والغاصبين .. سيجعل السمك مبتهجاً في البحر ، لكثرة ما سيلتهم من جثث هؤلاء القتلة الذين احتلوا بلادنا وشرّدوا أهلنا.
كان صاحب المقهى ينتعش في مناسبتين ؛ الأولى عندما يخطب الرئيس جمال عبد الناصر ، والثانية عندما تغنّي أم كلثوم . إذ على كل مَن يجلس في المقهى مستمعاً ..أن يطلب الشاي أو القهوة أو اليانسون أو الزعتر أو الحلبة .. وبشكل إجباري .