رام الله - معا - لم تتوقف أيادي نساء قرية "رنتيس" عن صُنع الحُلي وأطباق القش وحياكة المطرزات منذ إعلان موعد مهرجان "سوق الصبر الأول للثقافة والتسوق"، ولم تكل أقدامهن من تسلق الجبال والتنقل بين الأراضي بحثاً عن ورود للزينة، أو أخشاب من شجر الزيتون، وحتى (عيدان) سنابل القمح لاستخدامها في صناعة منتجات فنية تُعيد إحياء الحالة الثقافية داخل القرية، كإحدى أدوات مقاومة الاحتلال الساعي إلى محو الهوية الثقافية والوطنية.
"تسلقتُ جبال رنتيس والتقطتُ أخشاب الزيتون بنفسي كي أصنع منها تُحفة فنية وأقدمها للناس". هكذا بدأت فاطمة دنون (19 عاماً) المُشارِكة في مشروع "مقامات رنتيس" حديثها عن مشروعها الصغير في عمل الإكسسوارات من خشب الزيتون و(الأنتيك) بعد حصولها على تدريبات عدة لتمكينها من إدماج الفن في حرفة الخشب بطريقة ملهمة، لتسويقها ضمن مهرجان "سوق الصبر".
قالت دنون: "تعلمت شيئاً جديداً، وقد يجده البعض حكراً على الرجال، حيث قمت بقص الخشب وحفره وإضافة الخرز له وبتنسيق الألوان بشكل لافت".
أما المشارِكة مي عبد المنعم (24 عاماً)، التي تبحث عن فرصة عمل مناسبة لها، فقالت: "التقطت وروداً من بلدتي وزينت بها أعمالي الفنية بطريقة عصرية، وأقدمها في المهرجان بكل فخر"، مشيرةً إلى أنها تمكنت من خلال الورش التدريبية التي حصلت عليها ضمن المشروع من تطوير موهبتها الفنية بعمل إكسسوارات عصرية عبر دمج المطرزات فيها، والرسم على الكوفية، والاستفادة من الورد الطبيعي والخشب.
قالت عبد المنعم مبتسمةً وهي ترُتب أعمالها على طاولة خشبية استعداداً ليوم المهرجان: "هذه المشارَكة الأولى لي، وأنا متحمسة جداً ليس لاعتباره مصدر رزق لنا، وإنما كي نثبت مكانتنا كنساء ونُعرّف الجميع بأهمية قرية رنتيس المهددة بالضم".
"أدخلت نبتة الصبار في أعمالي الفنية لأهميتها الرمزية، وبخاصة بعد أن تأثرت نبتة الصبار في قريتنا بفيروس قد يقضي عليها". هذا ما قالته "أم شادي" المشارِكة في مهرجان "سوق الصبر" بأشغال يدوية فنية ومُعلقات صُنعت من أكياس الخيش والخشب، وحقائب طُرّزت بألوان مختلفة، وعلى هيئة نبتتيْ الصبار والنرجس.
ومن المقرر أن يُقام المهرجان في قرية رنتيس يوم السبت 10-7-2021 ويستمر على مدار ثلاثة أيام، بمشاركة 60 سيدة من مختلف المحافظات، منهم 15 سيدة حصلن على تدريبات ضمن مشروع "مقامات رنتيس"، الهادف إلى دعم المنتجات الوطنية والحفاظ على الموروث الثقافي والهوية الفلسطينية للحرف اليدوية والمأكولات الشعبية وانسجاماً مع حملة دعم المنتجات الوطنية، ودعماً لجهود المرأة الفلسطينية وتمكينها اقتصادياً واجتماعياً.
ويُعتبر مهرجان "سوق الصبر" أحد أنشطة مشروع "مقامات رنتيس" الحائز على منحة الدورة الخامسة من مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية"، بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان، وبتمويل مشترك مع الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، والمنفذ من قبل الفنانين بشار خلف وبترا برغوثي، علماً بأن "القطان" قد تلقت 83 طلباً للمشاركة تقدم بها فنانون أفراد، وفاعلون ثقافيون ومجتمعيون، ومجموعات، وفرق، أو مؤسسات فنية أو ثقافية عاملة في الضفة بما فيها القدس، وقطاع غزة.
ويهدف المهرجان المقام في "رنتيس"، وبجهود الشركاء، وبتعاون مجلس قروي رنتيس، والجمعية الفلسطينية لصاحبات الأعمال" أصالة"، إلى إحياء الحالة الثقافية داخل القرية، وتحفيز المجتمع المحلي على التعبير عن احتياجاتهم من خلال انخراطهم في النشاطات الفنية والثقافية والمجتمعية.
"شاهدنا أطفالاً من رنتيس يبيعون الصبر للمستوطنين على الطرقات، وبالمقابل قريتهم تشتهر بزراعة الصبار ... ومن هنا انطلقت الفكرة، وبدأنا بالبحث وتعرفنا على الأهمية المكانية والتاريخية والاقتصادية للقرية". هذا ما قالته برغوثي، موضحةً سبب اختيار قرية رنتيس لإعادة إحيائها ثقافياً واجتماعياً.
وعن تسمية المهرجان بـ "سوق الصبر"، قالت: "لأن رنتيس تشتهر بزراعة نبتة الصبار، ولكن هذا العام أصيبت النبتة بفيروس وتعرضت للتلف والتعفن"، موضحةً أن المهرجان يفتقر إلى وجود نبتة الصبار، إلا أن رمزيتها حاضرة في الأشغال اليدوية التي تعكس صبر أهالي القرية وثباتهم أمام جبروت المحتل.
وأضافت: "حاولنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه برش النبات بالمبيد الحشري، وبمشاركة متطوعين من أهالي القرية".
وأشارت برغوثي إلى أن مهرجان "سوق الصبر" يهدف بمضمونه إلى خلق سوق داخلي في قرية رنتيس الواقعة شمال غرب مدينة رام الله، في ظل نقص فرص العمل فيها، وتمكين أهلها اجتماعياً واقتصادياً، والتعريف بأهميتها المكانية لوقوعها على المنطقة الحدودية بين الأراضي المحتلة العام 1948 وأراضي العام 1967، وامتلاكها مقدرات مهمة مثل آبار النفط التي استولى عليها الاحتلال، كما أن أراضيها تتعرض للضم منذ العام 48 حتى يومنا هذا.
وقالت: "هدفنا الرئيسي تحويل رنتيس من هامش إلى متن، والمهرجان دعوة للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لإقامة مشاريع استثمارية في رنتيس، الأمر الذي سيوفر فرص عمل لسكانها في ظل التهجير القسري ونقص الخدمات".
وبجانب تطوير مهارات النساء بدمج الفن في الحرف المختلفة، عمل مشروع "مقامات رنتيس" على تجميل المساحات العامة في القرية، ورسم 3 جداريات ملهمة تأخذ طابع نبتة الصبار التي تحاكي المجتمع وتعبر عنه، بجانب إشراك الأطفال في تمارين عملية كـ (جمباز، هيب هوب، دبكة) وتعبئتهم ثقافياً وتعريفهم بأهمية الأماكن الأثرية المدمرة في قريتهم، وتغذيتهم بقصص الأجداد من خلال انخراطهم في ورشة لتعلم الرسم التوضيحي مع الفنان محمد عاموس.
قالت برغوثي: "اصطحبهم الفنان في جولة بين الأماكن الأثرية في القرية، وقاموا بالتقاط صور لها، ثم توجهوا بها إلى كبار السن كي يرووا لهم حكاية المكان وكيف كان، ثم طُلب منهم إعادة إحياء تلك الذاكرة من جديد وبرسم تفاصيل كما يرونها"، مشيرةً إلى أن اللوحات التي رسمها الأطفال ستعلق خارج مبنى المهرجان، وستتم مشاهدتها ضمن مسار سيسلكه الحضور في البلدة القديمة خلال أيام المهرجان.
أما خلف، فقد عمل على تجميل المساحات الفارغة ومدخل القرية من خلال رسم 3 جداريات تعكس مضمون مهرجان "سوق الصبر"، وترمز إلى أهمية نبتة الصبار وارتباطها بعزيمة وصبر أهالي القرية، وبخاصة أن أراضيهم مهددة بالمصادرة.
وقال خلف: "نبتة الصبار عُرفت عبر التاريخ باستخدامها لتقسيم المناطق السكنية بدلاً من الجدران، ونحن اليوم من خلال الفن نعيد استخدام ذات المفهوم القديم للنبتة، ولكن ضمن سياق مختلف، بالاستناد إلى رمزيتها وما تحمله من معاني الصبر والثبات على الأرض".