الكاتب: السفير منجد صالح
تشقّ نافذة غرفتي المُطلّة على الشارع وارف الظلال زقزقة وتغاريد الطيور. سيمفونيّة ربّانية متناغمة متناسقة مترادفة مستمرّة.
لا دخل للإنسان فيها ولا باع ولا ذراع!!
الطيور حُرّة طليقة كما أمواج البحر، كما الرياح، كما هبّات النسيم العليل تلفحُ مُحيّانا من الغرب، من بحر يافا وحيفا، مُحمّلة بشذى وشذرات ورائحة البرتقال والليمون.
مُحمّلة بحضارة وذكريات بحر كنعان وفينيق وارتداد نابليون بونابرت عن أسوار عكّا الجزّار.
لكنّ ليلنا وليل العُروبة ما زال دامسا مُدلهمّا، "ندعو لأندلسٍ إذا ما حُوصٍرت حلَبُ" (محمود درويش في قصيدة مديح الظلّ العالي)..
هل أصبحنا كأمّة عربيّة "ملطشةً" للشعوب والأُمم؟؟!!
وادي النيل الخصيب لم يعد خصيبا، ولم يعد هناك حاجة ولا داع لتطبيق "الخرافة القديمة" بحذف صبية "فرعونيّة" إلى النهر قُربانا للآلهة وتضرّعا لها كي ترحمهم وتمنع عنهم فيضان مياه النيل الذي يهلك الزرع والبشر.
اثيوبيا الحبشة قد تكفّلت بذلك بملئ الخزّان الأول والخزّان الثاني، وربما "الثالث" لسدّهم، "سدّ النهضة"، الذي يحجر ويحجز مياه النيل عن السودان وعن أرض الكنانة، فلا طمي بعد اليوم يصبّ في الدلتا في البحر الأبيض المتوسّط ولا على جانبي النهر السائر المُمّتد الذي كان مُتدفّقا يوما!!!
"يا ربُّ هل يُرضيك هذا الظمأ والماء ينساب أمامي الزلال" (من رباعيّات عمر الخيّام وغناء أمّ كُلثوم).
هل من المعقول أنّ مصر، "أم الدنيا"، بحضارة سبعة آلاف عام بُنيت على ضفاف نهر النيل تعطش وستعطش ويصبح نهر النيل "نيلة" ووبالا عليها بعد كل هذه الحضارة والزراعة والقطن المصري عالي الجودة طويل التيلة؟؟؟!!!
من نافذتي المُطلّة على الطريق المُشجّر وارف الظلال بدأت خيوط الفجر المشوبة بالبياض "تهرس" الخيوط السوداء الآفلة.
أوركسترا العصافير ما زالت تصدح بنغماتها الحالمة الطليقة المُضطردة.
بلاد الرافدين، بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات، "ميسوبوتاميا"، حاضنة حضارة سومر وبابل، تئنّ تحت وطأة وذيول "إدخال الدبّ إلى كرمها"!!!.
هل كان الأمريكان رحماء مع الهنود الحمر كي يكونوا رحماء مع أهل الفلّوجة؟؟!!
لُعبة الأمريكان هي لعبة "الكاوبوي" في كلّ زمان ومكان، ومع الشعوب قاطبة دون اسثناء.
ليس للأمريكيين حبيب ولا صديق ولا حسيب ولا نسيب.
سياسيّوهم "يفردون" خارطة العالم على الطاولة ويؤشّرون بأصابعهم عليها ويقولون: "هنا ستصل جزمات جنودنا" .. ويُنفّذ الجنرالات الأوامر والرغبات ويحرّكون الأساطيل والمارينز والطائرات، "عينك عينك" بقليل من المقدّمات وكثير من "الكشرات".
جزمات جنودهم ما زالت تُرابط وتتمترس في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وقاعدة غوانتانمو في جنوب جزيرة كوبا وفي العراق وسوريّا وأفغانستان وفي بنما (قناة بنما) وفي غرينادا (في الكاريبي).
وفي العديد من القواعد السرّية والمُعتقلات السرّية في دول الإتحاد السوفييتي سابقا وفي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
خيوط الفجر المشوبة بالبياض النافذة من شرفتي تزداد توهّجا وبياضا وتندثر الخيوط السوداء وتتلاشى تاركة الفضاء الفسيح للأبيض السائد.
غسان كنفاني في ذكرى استشهاده ما زال وسيدوم حيّا أبد الدهر، فالشهداء لا يموتون وإنما يعيشون سرمديّا ويورّثون الأجيال نبراس خلودهم وكفاحهم.
ساعة يد غسان كنفاني الملتصقة بيده التي طارت عاليا إلى العمارة المجاورة من قوّة وهول الإنفجار، انفجار سيّارته المُفخّخة موساديّا، كانت ما زالت تدق، وما زالت تدقّ حتى يومنا هذا، مُعلنة عن الزمن الفلسطيني المستمر المُتتابع الذي لا يغيب ولا يأفل.
ومُعلنة دائما عن فجر وليد جديد.
بالرغم من "الإنتصار الجزئي"، انتصار "الشباب" الصناديد في جبل صبيح في بيتا، بعد سقوط أربعة شهداء وعشرات بل مئات الجرحى، عطّرت دماؤهم الزكية ثراه وثرى الوطن، ما زالت حكومة بينت اليمينة تراوغ وتُراوح مكانها، كما راوغت سلفتها حكومة نتنياهو، في اخلاء الجبل من المستوطنين وبيوتهم و"غلاستهم".
حكومة يمينيّة ترث حكومة يمينية، فالمجتمع الإسرائيلي أصبح فاشيّا في تعامله مع الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت احتلالهم البغيض الطويل الوحيد الفريد.
الفجر يشتدّ عوده وساعده وينثر بياضه على روابي وهضاب وجبال فلسطين المُطرّزة بأشجار الزيتون والتين والعنب والميرمية والزعتر.
وانتصر الغضنفر، الليث الأسد الهزبر، الغضنفر أبو عطوان، بعد "صومه القسري" 63 يوما وليلة في اضرابه عن الطعام احتجاجا على اعتقاله الإداري الظالم المُظلم.
كفّ الهزبر الغضنفر انتصر على مخرز السجّان المُحتل .. وانبلج الفجر.
كاتب ودبلوماسي فلسطيني