الكاتب: تحسين يقين
لكنه صعب إن كنا سنكون واقعيين، لا مثاليين.
يود المتلون، العيش مع ملونين (قد لوثهم المال)، لا من أجل إشراكهم بالغنيمة، بل لتوظيفهم بمنحه الشرعية، ثم بعد انقضاء الهدف، يتم الاستغناء عن خدماتهم، كحال (ابوكرتونة) وآخرين حيث يبعثرهم مهران بيه على أماكن عمل مختلفة بعيدة، في زمن تصفية ليس القطاع العام فقط، بل الأوطان.
المأساة إن لم يقبل أبو كرتونة القيام بالدور، فهناك (أبوات كرتونات) مستعدون للخلاص الشخصي!
لنقرأ، والجميل أن الفيلم يمحنا الأمل باغتنام فرص التغيير قبل فوات الأوان! اما لماذا الان بعد 30 عاما؟ فالجواب حتى نتجنب الوقوع في الكوارث في ظل تحولات المجتمع. بس كده!
- ليت الانفتاح كان فكريا ليبراليا لا اقتصاديا!
- اقتصاد؟
- وهل غيره!
- وجهة نظر..
كنت في أول الشباب عام 1991، كان ذلك يوما جميلا، استمتعنا فيه بالفيلم، وامتلكنا الكثير من الأمل في الإصلاح. بعد ذلك بثلاث سنين، بدأ هنا في بلادنا تغيرات في الحياة. وعلى مدار 3 عقود، كنا دوما نتذكر "أبو كرتونة".
ابتسم الخمسيني لضحك الشباب السمر والصبايا السمراوات وهم ينسحبون يتجادلون عن أفضل الدروب للابتعاد عن مركز المدينة:
- "شو هو كاينة خطة خالد بن الوليد!".
رحت أتأمل سحناتهم/ن البريئة المحبة للحياة، يحتمون بتضامنهم وبأحلامهم، واختفوا جنوب المدينة بضحكاتهم، وأنا أتأمل.
بهدوء؟ ممكن؟ نرى الفعل ورد الفعل، ثم الردود عليه، لكن اللحظة لم تكن منقطعة عما مضى.
- والمهم؟
- أكيد المستقبل لنا وللبلاد.
لو تتبعنا الأفعال كلها سنصفها بعبارات، وقد نضيف شيئا رغم الهدوء الحذر، وهو أن ما كان قبل اللحظة، لم يتغير كثيرا، فالنهج كما هو، لذلك سيستمر، أو هكذا بعد خفوت الانفعال.
في لحظة الانفعال، ترتفع المطالب إلى درجة غير واقعية، ثم تذهب، فلو طالبت بما هو ممكن لكان أفضل؛ فقد كان بالإمكان أفضل مما كان لو امتلكنا جميعا: الحاكم والمحكوم: العقلانية والحكمة، فنطبق القانون، ونجري محاسبات ومساءلات سريعة، من قبل المؤسسة نفسها.
لذلك لعلي، وقد صرت خمسينيا أتتبع الأفعال، بوجه غير منفعل، أوجدت نفسي على الأطراف، أو هنا مع هؤلاء أو أولئك. أنظر في وجوه أبنائنا الشباب هنا، بمن فيهم أبناؤنا في الشرطة، فهم كلهم أبناؤنا، فأجد أن التنازع هنا ليس هو مكانه، فالأفضل وجودهم معا متضامنين في همومهم واهتماماتهم في سياق أعمارهم: العيش بكرامة في ظل وجود عمل يومي واهتمام ثقافي وإنساني ووطني طبعا.
- خلاصان؟
- وهل من غيرهما: الشخصي والوطني!
لقد فعلت التحولات فعلها في مجتمعنا الصغير، فكان ما كان ويكون، وكلها أثرت علينا، وعلى الفئات الشابة طبعا. وهنا، صار من اللزوم التفكير العميق بحال الحكم والإدارة، من أجل تطوير الأداء، بما يحسّن من حياة الفئات الشابة بشكل خاص، ومن حياتنا لبقاء أقوى، هو لزوم استمرار طريقنا نحو الهدف الأكثر سموا: التحرر والاستقلال الوطني.
مشكلة في النظم، ومشكلة في صناع القرار، ومشكلة فينا نحن الجمهور. ولكل مشكلة حل، إن أردنا جميعا. ويبدأ ذلك بوجود من يهتم بالشأن العام كأنه يهتم ببيته. فمن سيصبح مسؤولا في أي مجال، ونمنحه الاحترام والميزات المادية والمعنوية، عليه القيام بما أوكل به فعلا، خصوصا في سنوات خدمته العامة. ومن المهم أن يتحمل المسؤولية والسؤال والتساؤل والمساءلة، بل وأن يتحمل النقد وما فوق ذلك، لأن ذلك موجه له كمسؤول لا بشكل شخصي.
مشكلة الإدارة هي التي تقود غالبا الى مشكلة الحكم؛ فإدارة مؤسسات البلد أي بلد، هي من تقرب الحكم والحاكم للشعب وهي التي تبعده. لذلك فإدارة الحكومة لمجالات تمسّ الجمهور يوميا، من تعليم وصحة وزراعة وتجارة وشرطة وإعلام..سيحسّن من صورة النظام السياسي، وسيقوي فرص البقاء والعودة من خلال الانتخابات.
لا يكفي أن نرفض نحن والشباب ظواهر ما، بل الأهم تحديد خارطة أهداف ممكنة ومنطقية، حول ما نريده، وما هو مشروع.
إن ما يحرّك الشباب والكبار فعليا ليس ما يخصّ الهموم العامة لأننا نتقاسمها، بل ما يدفعنا من داخل نفوسنا هو خلاصنا نحن، وحاجاتنا الحقيقية، وفقا لهرم ماسلو، بمعنى أن وجود دخل مادي ينتج عن عمل إنتاجي سيجعلنا أكثر مسؤولية وعقلانية. لذلك لا نستطيع عزل العدالة عن التحرر، نحن نريد الخبز والوطن معا، ولا ضرورة لافتعال التناقض بينهما. فكيف سنكون وطنيين معا فعليا وبيننا فجوات كبيرة في الدخول؟
إذن تماسك المجتمع هو المهم، للأفراد والجماعات، وقد خلقت الحكومات لأجل ذلك، لا لأجل الاعتناء بنفسها. لذلك فإن فهم السياق الاقتصادي تحديدا منذ عام 1994 حتى الآن سيؤشر على دلالات مهمة، إن وعيناها سنستطيع التعامل وحل الأزمات والمشاكل.
يعيدنا فيلم "أبو كرتونة"، إنتاج عام 1991بطولة الفنان الراحل محمود عبد العزيز، إلى فترة السبعينات في مصر، وفيما عرف بسياسة الانفتاح، التي توجت بسياسة الخصخصة وتصفية جزء مهم من القطاع العام (عشت بعض أحداث ذلك في فترة 1988-1992 أثناء دراستي)، يعيدنا الفيلم إلى رمزية سياسية إدارية، من خلال إدارة شركة إنتاجية.
لربما أراد الكاتب أحمد عبد الرحمن والمخرج أسامة فريد، إيصال رسالة مهمة تتعلق بدور الناس-الجمهور-الشعب، بما فيها من إرادة وأمل بالتغيير.
تلقينا الفيلم عام 1991 في السنة الدراسية الثالثة كان بما يلائم ذلك العمر، وهو أن هناك مجال للتغيير، وصحوة الضمير، ولعل الوعي يتطور، فترانا نذهب نحو الجذور، وإلى إمكانيات التحقق فعليا وعمليا وواقعيا لا رومانسيا.
هي التحولات الاقتصادية، وما لاقته من نفسيات إما تبحث عن خلاصها وإما تبحث عن خلاصها المتوازن والمتقاطع مع الشأن العام، دون وجود تناقض؛ حيث تصبح إدارة المال العام القيام بها لضمان العدالة.
في الشركة فساد، ورئيس مجلس الإدارة وهو مهران بيه (حسن حسني)، أراد أن يصفي الشركة بما يضمن مصالح فئة قليلة، وحتى يتمكن من ذلك، يريد تغطية وشرعية من العمال، فيختار مرشحين بسطاء لمجلس الإدارة متجنبا العمال الأكثر وعيا لما يدور، حتى باسمهم ينفذ مآربه، بعد أن صرف اهتمامات الممثلين الجدد نحو الاهتمام بمصالحهم هم لا الشركة.
في اللحظة الحاسمة، بعد الإعلان عن توزيع العمال على أماكن عمل مختلفة وبعيدة، لقرب إغلاق المصنع، يدرك أبو كرتونة ما تم من خداع، ويبدأ بالتسلح بالوعي والإرادة من خلال التنسيق مع العمال الذين يؤكدون أن المنتجات صالحة لا فاسدة، وحماية للشركة من الإفلاس يستولي العمال على البضاعة ليلا ويبيعونها، وينقذون الشركة، فلا يتم بعثرة العمال.
بالرغم من عدم وجود صور أو مؤشرات على زمن محدد للفيلم، إلا أننا ندعي أنه يتحدث عن فترة تصفية القطاع العام، وهي تشبه أي واقع اقتصادي يركز الثروة في أيدي عدد قليل من المواطنين.
كما ذكرت، فإن إدارة مؤسسات البلد أي بلد، هي من تقرب الحكم والحاكم للشعب وهي التي تبعده. وفي حالتنا هنا، وفي بلادنا العربية وأية بلاد، سيصبح من الاستراتيجي أن يهتم النظام السياسي بوزارات ومؤسسات الدولة، خاصة تلك التي هي على تماس مع المواطنين.
الفن ملاذي: أرى فيه حالي وحالكم إن كان صادقا كذلك والأدب، نتأمل معا، وندخل في جدليتهما مع الحياة، أيكون مرآة لنا فقط، في المكان والزمان، أم يحمل فعلا تطهيريا كلاسيكيا؟ أم لعله يذهب بنا نحو الغد، لمستقبل أفضل نتجنب فيه سلبياتنا؟
والمهم هنا، بل المدخل، هو المتعة الفنية، التي من ضمن اشتراطاتها مضمونا إنسانيا يلبس ثوبا جماليا، تستمع به الحواس، ويثار فيه الفكر. لذلك يصير الإبداع شرطا للرسالة المتضمنة في العمل الفني، وغالبا ما يرتقي المضمون بشكله.
الاستخلاص، من مصلحة الحاكم والمحكوم معا وجد نواب واعين/وواعيات، كذلك من المصلحة نفسها ضمان إدارة ناجحة للمؤسسات الحكومية تكون رافعة للمؤسسات الخاصة والأهلية.
إذا كان ابو كرتونة انتبه في حالة الفيلم هنا، فليس هناك ضمانة أن ينتبه آخرون يتم التخريب باسمهم وباسمنا جميعا.
كان مهران بيه ذكيا حين اختار ممثلي العمال، ودفهم نحو الاهتمام بمصالهم الخاصة والابتعاد عن العمال. وكم من مهران بيه موجود هنا وهناك؟
لننتبه أكثر في المرات القادمة.