قراءة انطباعية للكاتب شفيق التلولي
أنثى، عنوان يثير أسئلة في ذهن المتلقي، فهو معطى دلالي يوحي أن الحكي يتناول الحديث عن أنثى بعينها ما يثير الفضول حول تلك الأنثى ومن تكون وما قصتها؟ فكلمة أنثى جاءت نكرة بالعموم، هي ليست أنثى بمفردها كما يتخيل للمتلقي.
هذا المعطى الدلالي يتماهى مع انطلاق السرد في مرواغة من الكاتبة جاءت في العتبة الأولى من النص بعنوان "أنا هنا الآن" لإيهام القارئ بذات الاعتقاد الذي يذهب إليه فتقول بلسان الساردة: "تسيل الكلمات في جوفي.. تتذكر نبوءة عشق امتلكت روحي، وتتساءل بقسوة: هل سيحدث وأن أعيشها ذات صدفة"(الرواية، ص7)، إلى أن ينثال السرد وينجلي معلنًا أنها حكاية لأنثى تتشعب منها معاناة المرأة في المجتمع الذكوري بأعرافه وقيمه المتصلبة والمتسلطة ضد المرأة، فتتفرع الحكاية في عدة وجوه للمرأة المقهورة صاغتها الكاتبة في اللوحة الأولى بعنوان "حين حضرت" وتصف بلسان الساردة مشهد ميلادها لتفتتح أحداث الرواية، ويتضح أن الساردة "منى" هي محور الحكاية وتدور في فلكها وجوه نسائية عدة وشخصيات ذكورية ربطًا بها.
هذه الوجوه تمثلت في "هدى" أخت الساردة الكبرى، وأختها الوسطى "سميرة" بالإضافة لشخصيات نسائية أخرى مثل: الأم "زكية" التي استهلت بها السرد الروائي وهي الأم المقهورة والمسالمة، والعمة "سعدية" الثرثارة القوية والمتسلطة التي جاءت تمثل أعراف الذكورة، وكذلك الصديقة "نادية" رفيقة نضالها الاجتماعي الذي حدث لها تحول من الصورة الضعيفة للمرأة إلى الصورة القوية بعدما رفضت المكوث في البيت والاستغناء عن وظيفتها بالرغم من كونها أم غير أنها انهارت أمام أعراف المجتمع حينما أدركت أنها حامل من زوجها الهارب من بطش الانقسام الفلسطيني ما دفعه للتسلل إليها خلسة للقائها فخشيت أن يظلمها المجتمع إلى أن استقرت الأوضاع قليلاً في غزة وعاد زوجها وأبقت على حملها التي كانت تفكر بالتخلص من جنينها.
إذن العنوان يهيئ المتلقي منذ البداية ليعطيه انطباعًا أن تيمة الرواية عن المرأة في المجتمع، وبالتالي نحن أمام رواية تندرج في إطار الأدب النسوي الرفيع لتعدو رواية اجتماعية بامتياز وإن كان قد تسرب إلى جوانب من الحياة السياسية ليتلاقى الخطاب الاجتماعي بالسياسي.
فكرة الرواية هي حكاية منى الساردة مع أسرتها على مدار خمسة وثلاثين عامًا هي عمر الساردة / زمن الحكاية، وتتكلم فيه بصوتها عبر ضمير المتكلم زاوجت فيه بين صوتها الداخلي من خلال المونولوج واندياحات الذات وعلاقتها بذاتها وصورتها التي كونتها عن نفسها باعتبارها أنثى غير جميلة كما رآها المجتمع وعدها عانسًا كما جاء بلسانها وعبرت عن ذلك أيضًا باللهجة العامية المحكية "أنها عظمة كبيرة" وأنها وجه شؤم وتشبه الرجال كما وصفها أبوها منذ ولادتها بعد أن رفضها وهم بإلقائها في البئر لأنها كانت ثالث أنثى تنجبها أمها بينما كان يتشوق لأن تنجب له ذكرًا، كما شاركت الساردة/ فاعل الحكي ومفعوله في مختلف أحداث الرواية تباعًا مستخدمة تقنية استدعاء الماضي الاسترجاع المزجي أي أنها تعود إلى نقطة سابقة عن نقطة انطلاق الحاضر السردي ثم تعود لمزجه بالحاضر وتقدمه في صورة مشهدية كما لو أن الأحداث تحدث الآن مستخدمة تقنية الكاميرا في مشهدة الأحداث من خلال استخدام تقنيتي الحوار المباشر والمونولوج.
فيما دلل السرد على أن زمن الخطاب الذي هو زمن الحاضر يقع في فترة الانقسام الفلسطيني كما أشارت به في حكاية صديقتها "نادية" وكذلك إشارتها لتكرار انقطاع التيار الكهربائي عن غزة المقترن بالانقسام وغير ذلك من مظاهر.
إذن تكونت بنيتان زمنيتان في الرواية هما بنية الماضي بأشخاصه وأحداثه التي كان لها أثر كبير على بينية الحاضر، ففي الماضي ظهرت شخصيات الماضي الأم زكية ومعاناتها مع الزوج أبو محمد، وهدى/ الاخت الكبرى ومعاناتها مع زوجها حيث فرض عليها أن تكون زوجة بلا أطفال لزوج عقيم تزوج عليها معتبرًا إياها عاقرَ وذلك في ظل سطوة الأب الذي أجبرها القبول بذلك، وسميرة/ الأخت الوسطى وحكايتها مع "حسان" الذي أحبته وأحبها وقتلت حرقًا بسبب ذلك ولرفضها الزواج من ابن عمها إثر اكتشاف والدها لأمر هذا الحب وهروبها بعد قمع تمردها الذي عبرت عنه بالانطلاق نحو القراءة والكتابة إلا أنها قمعت بآلة القمع الذكوري.
أما منى/ الساردة فهي الشاهد الصامت على أحداث السرد والتي سكتت عن القمع وخافت أن تصرخ لحظة حرق أختها سميرة وحتى أنها لم تبح بذلك وظلت الأنثى بصورتها النمطية، وكذلك كل النساء في الرواية اللاتي ظهرن كن مقموعات وسجينات الفكر الذكوري وراضخات لهذا الفكر سوى سميرة التي بمجرد أن خرجت عن هذا الإطار قتلت بالحرق ودفنت في حديقة منزلها.
صورة الساردة عن ذاتها من خلال هذه البنية قد تفتق عنها وعي الساردة المبكر بصور القمع لها ولنساء الرواية: أمها وأختها هدى وكذلك سميرة القتيلة، وهذا ما جعلها تصدق، كذلك، أنها غير جميلة في ظل تلك الثقافة التى تكرس النظرة الدونية للمرأة وتختزلها في مجرد الجسد، نراها تنتظر الخلاص عن طريق رجل يتزوجها ويبعدها عن هذا الواقع.
هذه البنية تقاطعت مع بنية الحاضر في ظل غياب شخصيات الرواية، موت سميرة، موت الأم، ثم موت الأب، وهروب الأخ محمد إلى جنوب أفريقيا، استكانة هدى، فكرة الموت في بنية الحاضر تغلف المحكي بإعادة مساءلة الواقع، من خلال هذه البنية ظهرت "دوال" مشبعة بالرمز لها علاقة ببنية الحاضر مثل "اللوحة" التي اشترتها وعلقتها في بيتها لوحة لامرأة تنظر للفراغ في انتظار الخلاص؛ لذلك عندما التقت بالفنان "رائد" قلبت اللوحة بعد أن وجدت ضالتها، كذلك دال "المرآة" في بنية الحاضر لها دلالة كبيرة أيضًا، فبعد أن عثرت على الحب انطلقت لتأمل أنوثتها واكتشاف ذاتها، والمرآة دومًا مرتبطة بالمرأة فهي عالم اكتشاف الذات بالنسبة لها.
إذن التقت البنيتان وتداخلتا بين الماضي والحاضر من خلال الساردة منى التي ساقت الأحداث تباعًا. منى الحاضرة ليست منى الماضية، تسامحت مع الماضي بعفوها عن أبيها بعد موته وذلك بفطرتها الإنسانية، بيد أنها رفضت الزواج من ابن عمها في الحاضر الذي كان خطيب سميرة قبل أن يقتلها بمشاركة أخيه وأبيها، كذلك دلالة موت الأب تكشف عن استمرارية الذكورة والاستكانة من منى فلم تسعى للتغيير وارتاحت من سطوة الأب الذي كان يريد تزويجها منه.
نساء رواية أنثى يغلب عليهن الصمت منذ البداية وحتى النهاية فلا نستطيع أن نقول إن هناك حالة تمرد حتى من قبل الساردة الحالمة التي أعلنت عن نية تمردها والبوح لرائد بحبها غير أنها استسلمت لمنطق الذكورة وانتظرت مبادرته بذلك باستثناء سميرة التي قتلت بسبب تمردها، واكتفت منى بالبحث عن الحب والزواج وبالاحتفاظ برماد سميرة في زجاجة لكنها نثرت رمادها في البحر عندما وجدت الحب، كذلك لم تبح بمقتل أخيها سميرة، ولم ينقذها من زواج ابن عمها خطيب سميرة غير انكسار أبيها بعد سرقة ماله من قبل ابنه محمد ومن ثم موت الأب، وأنهت الساردة منى الحكاية بزواجها من رائد الذي اعتبرته منذ البداية كرجل السند والظل كما أشارت ولم تتمرد وتقوم بثورة.
بذلك تكون الكاتبة ديانا الشناوي قد سلطت الضوء على موت الفتيات في المجتمع على خلفية الشرف كما لو أن الأب أو الأخ أو الزوج سلطة مطلقة ولا رادع لهم في ظل غياب القانون، هذا دليل على أن الكل يعرف ويصمت كما صمتت منى في سياق سرد أحداث الرواية.
كما أثارت موضوع الميراث ونظرة الأب الذكورية لمفهومه عندما أراد فقط توريث ابنه محمد الذي سرقه وهرب وتخلى عن أخواته ليعود مجددًا من جنوب أفريقيا محاولاً بيع مزرعة أبيه المتوفى فتصدت له منى وهذه النقطة نقطة انطلاق جيدة ارتدت فيها منى للمكان لتعلن تشبثها بالمكان وتعالج قضية الميراث من خلال تفكيك الفكر الذكوري.
والمكان في الرواية هو الأرض المتمثلة بالمزرعة الواقعة في قرية جنوب قطاع غزة، المزرعة بكل تمثلاتها ومفرداتها من أشجار وطبيعة وذاكرة المكان الذي كان شاهدا على القمع فلم تتخل عنه وعادت مرة أخرى من المدينة لتقف في وجه أخيها الذي حاول بيع المزرعة لتتخلص من سطوة الذكر الذي نعته أبوها بالملك الوارث لكل شيء، الولد الذي جاء له "على شوق وعطش" كما يقولون بالعامية.
كذلك اللغة في الرواية جاءت سلسة وسهلة ومنسابة محمولة على لغة شعرية سواء خلال الحوار المباشر أو عبر المونولوج أو من خلال السرد الذي تمثل في وصف الأماكن والشخصيات والأزمنة، كما تسللت اللغة المحكية لجنبات الرواية بشكل رشيق، فلم تخل الرواية من بعض الأمثال الشعبية والأشعار بالفصحى والعامية.
يبقى السؤال الأهم، لماذا لم تطرق منى باب الثورة الأنثوية ضد المفاهيم الذكورية مع أنها صحفية ومقدمة لبرنامج إذاعي بعنوان سيدتي؟! ألم تكن حادثة مقتل أختها سميرة وحرقها ودفنها في حديقة بيتها كفيلة بألا تصمت وتصرخ بأعلى صوتها؟!
فالوصف المؤلم الذي صورته الكاتبة ديانا الشناوي بلسان الساردة منى لمقتل أختها سميرة كما جاء في صفحة (73) و (74) من الرواية الذي تقشعر له الأبدان ويهيئ القارئ لثورة أنثوية حيث تقول: "بكيت بكيت وتسرب عرق غزير من جسدي.. سمعت صوت صرختك في رأسي يهزني، رأيت الكلمات تنهمر من عينيك.. شممت رائحتك.. نبشت الرمل عنك... أتقط زجاجة صغيرة، كانت ملقاة بجانب البرميل، أجمع رمادك بيدين مرتجفتين وأعبئه بحذر داخل الزجاجة ثم أغلقها بإحكام.."
القارئ لأحداث الرواية وتجلياتها يتبين له أن منى فكرت في التمرد مرارًا وخوض ثورة أنثوية بل إنها فعلاً أحيانًا عندما تصدت لأخيها وحالت دون بيعه مزرعة أبيها لكنها اكتفت بذلك والخلاص الفردي بزواجها من رجل ظلت تحلم به ونثرت رماد أختها في البحر.
أخيرًا وجب القول إن هذه الرواية تمثل إضافة للرواية النسوية الفلسطينية التي ما زالت تنبش في قضايا المرأة وتفكك الفكر الذكوري بلغة بسيطة وأحداث جاذبة وصادمة ومشوقة ومدهشة بحبكة متماسكة وبناء متقن وأدوات سردية موظفة ورؤية تنم عن فكر عميق لمجمل قضايا المجتمع وأهمها المرأة أحسنت الكاتبة ديانا الشناوي صنيعها.