الباحث: د. أحمد عزيز / نابلس
تُشكل الإبداعات والنِتاجات الأدبية والفنية في السجن مقوماً من مقومات الصمود والمقاومة، على تنوع أصنافها وأشكالها وأجناسها، من رواية وقصة وشعر ورسالة وتجليات نثرية وأدبية، وتعتبر الرسالة واحدة من الألوان والأجناس النثرية التي تحظى بقيمة كُبرى بين هذه الأجناس الأدبية لقدرتها على تحقيق فاعلية التواصل والتوجيه والإخبار، وباعتبارها وثيقة تعكس الواقع المعيش، والمستوى المعرفي والثقافي والنفسي، وهي تندرج في إطار أدب السجون والمعتقلات وأدب المقاومة، وكثيراً ما ارتبط الإبداع الأدبي بتجارب السجن والاعتقال، واختيار هذا اللون من ألوان التعبير والتأثير من داخل السجن يعكس اهتماماً واضحاً بقيمة هذه الرسائل الفنية والجمالية وأبعادها التداولية التواصلية، بوصف الرسالة خطاب له مقاصده وغاياته التي تحمل رغبة في التواصل مع الآخر وتقريب المسافات التي يُباعدها واقع الأسر.
ولا شكَّ أنَّ الأدب وفنونه المتنوعة تمارسُ دوراً مهماً في تفسير الحياة، وغرس القيم والمفاهيم التي تُسهم في البناء الإنساني والتغيير المجتمعي، ومِن هُنا تنخرط الرسالة في هذا التفسير، لأنها تحمل روية وترتبط بوظائف وأهدف، وتتجلى في كونها نشاطاً إنسانياً مؤثراً، وسُلطة نصية وقوة لغوية لها استراتيجياتها في استمالة القلوب والعقول، في ظل سياقات ومقامات ومحركات للخطاب.
إنَّ قراءة رسائل الأسير الفلسطيني المَقدسي حسام شاهين تستوجب الوقوف على مرجعياتها وفضاءاتها، وسياقاتها المتنوعة، وكذلك رصد نصوصها المحيطة، وعتباتها، لأنها تٌشكل فهماً أعمق وتفسيراً أدق لبلاغة خطابها وتقنياتها السردية والأدبية.
إنَّ السجن تجربة اجتماعية معرفية في فهم الإنسان والدخول في عوالمه، وكتابة الرسائل في السجن هو كتابة عن الحرية وتمرد على الظلم والقهر والتَّسلط والعسف والاستبداد، ومحاولة لتوسيع المكان وهدم جدارن السجن، والتَّغلب على التحديات والصعوبات اليومية، وهي تعكس جملة من الحقائق في رسائل حسام شاهين:
_ الشعور العميق بالمسؤولية تجاه هموم وقضايا الشعب الفلسطيني.
_ الإحساس العالي بالواجب الإنساني والوطني.
_ المشاركة في الحياة العامة والتنمية البشرية في المجتمع الفلسطيني.
_ الانخراط في الواقع الفلسطيني عبر فضاءات لغوية تمارس المقاومة عبر خطابات توجه إلى جمهور مخصوص حاملة رسالة تسعى إلى نشرها وتبليغها.
_ الدفاع عن قيم الخير والحق في مواجهة الشر والباطل، والتَّصدي لمحاولات التَّغييب والحرمان.
_ تأصيل الوعي الوطني وتأصيل الوعي بالصراع، وتوجيه هذا الوعي بقدر كبير من الالتزام والحرص والأمانة على مستقبل الأجيال الفلسطينية.
_ تعرية خطاب النَّقيض، وتفكيك روايته.
تحمل رسائل حسام شاهين الكثير من التأملات والتصورات والتحليلات والنقاشات والتعليلات التي تتطلب بحثاً مُعمقاً في الوضع الخطابي الوظيفي للرسائل، وبحثاً واسعاً في المواقف والمقامات والمواضع التواصلية، والنَّظر في نسيجها الخطابي يقودنا إلى خصائص أدبية وجمالية تستوجب بحثاً في بلاغة الخطاب وخَطِّيَّة الزمن في رسائل شاهين؛ حيث سبعة وخمسين رسالة توزعت على خمسة عشر عاماً، ولعلَّ انصهار خطابات أُخرى في الرسائل، واستضافة بعض الوقائع، واستحضار شخوص محورية ومركزية مَدعاة لقراءة تداخل الخطابات في هذه الرسائل، وقد وجدنا أنّ حضور شخصية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رسائل حسام شاهين هو من قَبيل ما يسمى بالمجد المختار في العلوم الاجتماعية.
ويبرز البعد الإنساني في رسائل حسام شاهين عبر تمثيلات وموضوعات وعناصر ومكونات تُمثل تجربة شعورية، وهذا يُعزز مفهوم الأدب بوصفه ظاهرة إنسانية في مضمونها وجوهرها.
وقد التزم حسام شاهين في عقد صريح مع المتلقي، باعتبار رسائله شظايا سيرة، حاول من خلالها مَسرَحَة ذاته عبر الهوية الذاتية تارةً، وتارةً أُخرى عبر الهوية السردية، أمَّا توجيه الرسائل إلى قمر كما جاء في العنوان، كما يحمل دلالات واقعية، يحمل دلالات رمزية تُحيلٌ على الجمال كقيمة علياً تواجه القُبح وبشاعة الواقع.
ونجد للمتلقي في رسائل إلى قمر مكانة خاصة، تفترض وجود مُخاطب قادر على استقبال الخطاب، وتوجيه الرسائل إلى قمر له علاقة بالافتراض الزمني القائم على ديمومة الوعي والتفاعل المستقبلي مع الخطاب، من منطلق التّصور للمعادل الموضوعي في الخطاب.
قيمة هذه الرسائل تكمن في خطابها الذي يعانق الحرية، ويمتلئُ بالوطن،
واعتبار السجن الفعل، لا التوقف عن الفعل، ومحطة تستجلب العالم رغم الانقطاع عنه.
رسائل تُعيدُ تعريف السجن، وتحطم زنازين العَزل و تُحلق في سماء الحرية.
رسائل لا تكتفي بوصف العالم وتصويره، ولكنها تروم أيضاً تغيره بإحداث تأثير عملي في المُتلقي.