القدس- معا- صدر عام 2018 كتاب "أشواك البراري" للأديب المقدسي جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا ، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنان التّشكيلي محمد نصر الله، ومنتجه وأخرجه شربل الياس. في 214 صفحة من الحجم المتوسط.
“يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره” هكذا وصف الجاحظ القراءة، ففي البدء كانت الكلمة، ودونها تتوقف المعرفة والأدب ويتجمد الفكر، فلا ثقافة دون قراءة، هي حلقة من حلقات الوصل والتواصل مع الوجود لفهم المجتمعات البشرية وتاريخها، لذا فقراءة كتاب مميز، تجربة رائعة تحمل بين طيّاتها أسرارا وفوائد، أما الحكايات والتّجارب التي نعايشها بالقراءة فتُكسِبُنا خبرة معرفية، تتعدى بدورها الزمان والمكان، وهذا ما ينطبق على كتاب “أشواك البراري”، وهو سيرة ذاتية لفترة الطفولة والمراهقة للأديب جميل السلحوت، المولود عام 1949م، يقع الكتاب بين 214 صفحة كُتبت بلغة سردية شيقة، تميزت بالرصد المعلوماتي، واجتمعت فيها عناصر المتعة والألم والمواقف الساخرة، تحدث الكاتب عن طفولته المعذّبة وأحداثها التي تسلسلت تباعا، فأدخلت القارئ إلى منطقة زمنية ووجدانية أخرى، وإلى تلك التجربة الإنسانية التي عاشها في منطقة جبل المكبّر. (أشهر جبال مدينة القدس وقد سمي بذلك لارتباطه بالخليفة عمر بن الخطّاب الذي جاء إلى المدينة فاتحا مُكبّرا على قمة الجبل).
بدأ السلحوت بإهداء كتابه الى والديه، اعترف بتردده في كتابة سيرته الذّاتيّة، خصوصا بما يتعلق بطّفولته الذبيحة التي عاشها وأبناء جيله، وما لحق بهم من تبعات النكبة عام 1948م، ومما كان سائدا من الجهل الفقر والتّخلّف، ثم قرر الكتابة ليوثق تلك المرحلة المأساوية التي عاشها شعبنا الفلسطيني، وليؤكد على قدرة الانسان على تحقيق طموحاته رغم كل الصعوبات.
وصفْ المرحلة تاريخيا: ما أن تخلّص الأجداد من العثمانيّين في نهاية الحرب العالمية الأولى، حتّى وقعوا تحت الإنتداب البريطانيّ واتفاقية سايكس- بيكو، ووعد بلفور، فالنكبة ثم فترة الإدارة الأردنية للضفة الغربية، ثم النكسة! وهكذا كان آباؤنا وأجدادنا ضحيّة لواقع مرير فرض عليهم، يَذكُر الكاتب أن والده قضى العام 1939م كاملا كمعتقل إداري في سجن عكا، فقد أرسله القائد عبد القادر الحسيني لجلب سلاح من الشّام، وعاد إليه بنصف شوال من الرصاص، شعر الحسيني بخذلان العرب له، فكتب مذكرة لأمين الجامعة العربيّة جاء فيها: “السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمّلكم المسؤولية، فقد تركتم رجالي في أوج انتصاراتهم دون عون أو سلاح”. بعد يومين من ذلك قاد الحسيني معركة القسطل غرب مدينة القدس وارتقى شهيدا، كما وصف الكاتب مرحلة النكبة وما صاحبها من مجازر وتشريد حوالي 950 ألفا من أبناء شّعبنا.
التعليم: عقد الكاتب مقارنة بين الجيل السابق وجيل الأبناء من حيث التعليم الذي انتشلهم من الجهل، وبسبب الفقر المدقع كان الكثير من التّلاميذ بعد إنهاء الصف الخامس أو السّادس الابتدائيّ يجبرون على ترك المدرسة والعمل لمساعدة أسرهم. تأثّر الناس بالقائد عبد القادر الحسيني الذي كان يعسكر بينهم، ويجد الرّعاية والحماية منهم، شاركوه الثّورة، كان يَحضُّهم على التعليم، من هنا بدأت عمليّة تعليم أبنائهم في المدارس، حظي المعلمون في تلك المرحلة بمكانة اجتماعيّة لافتة، فقد كان أولياء أمور التّلاميذ يدعون المعلمين إلى الولائم في بداية كلّ عام دراسيّ احتراما لهم، تأخر تعليم الإناث في حين بدأ تعليم الذّكور في المدارس في أواخر العشرينات من القرن العشرين، إلا أن افتتاح أوّل مدرسة ابتدائيّة للبنات في جبل المكبّر كان في عام 1954م، وهذا بعد أن تعلم الأبناء الذكور وأدركوا أهمّيّة العلم، فبدأوا بالضغط على أهلهم؛ ليساهموا في تعليم أخواتهم وبنات عائلاتهم، في تلك المرحلة لم يسمح للإناث بمتابعة التعليم بعد المرحلة الابتدائيّة، وذلك لعدم توفر مدرسة اعدادية وثانوية قريبة، بالإضافة الى قضيّة الزّواج المبكّر التي كانت شائعة آنذاك، لكن وجودهم في قلب مدينة القدس، شجعهم على تعليم أبنائهم، وهذا ما دفع بهم إلى التّحضّر السريع، ففي إحصائيّة لوزارة التّربية والتّعليم الأردنيّة عام 1964م عن تطوّر التّعليم في المملكة، كانت منطقة جبل المكبر هي الأولى.
المرأة : في تلك الفترة كانت النساء يتعرّضن للعنف بكل أشكاله، وكان الزواج المبكر منتشرا في تلك الأيام، فقد كانت النساء يصبحن جدّات في الثّلاثينات من أعمارهنّ، ولم يقتصر دورهنّ على الانجاب فقط، فالمرأة كانت تزرع وتحصد، تحلب الأغنام، تصنع من الحليب جبنا ولبنا، سمنا وزبدةً، وفي الرّبيع تقوم بتعشيب حقول الحبوب وتنظيفها من الأعشاب الضّارة، وبعد الحصاد تعمل على إزالة الأشواك من الأرض، بالإضافة الى مهمتها الأساسية في الحمل والولادة والرّضاعة ثم العناية بالأطفال، والأعمال المنزلية والطبخ، كانت النساء أيضا يغزلن الصّوف لصنع الملابس الشتوية، بينما كان دور الرّجل يقتصر على بيع الحليب ومشتقّاته لتجّار القدس، الزواج، واحتساء القهوة والشّاي مع رفاقه متّكئا يشتكي الجهد والتّعب.
الزواج: عرض الكتاب أنواع الزواج التي كانت سائدة مثل زواج البدل وزواج الأقارب، لم تكن المرأة تملك قرار زواجها فوالدها هو من يقرّر، ولا يجوز لها الاعتراض أو الرّفض مهما كان السبب، كان ممنوعا عليها وعلى الأبناء التكلّم في حضرة الأب، الجدّ أو العمّ، وممنوع على الآباء التدخل في زواج بناتهم طالما كان الجدّ حيّا، فهو صاحب الرّأي في زواج حفيداته وبناته! كان تعدد الزوجات منتشرا وكان التمييز بين الأبناء والبنات ظاهرة اجتماعيّة واضحة، فكان من ينجب الذكور سعيدا، ومن تنجب الإناث دون الذكور فعليها تحمّل العواقب! كانت تُنبَذ وتتعرّض للطلاق أو الزواج عليها، أما عن ولادة الاطفال فلم تكن الدّاية القانونيّة أو الولادة في المستشفيات معروفة في تلك الحقبة، كانت بعض المسنّات يساعدن المرأة لتنجب وليدها، ومن تتعسّر ولادتها تموت.
ال حياة الاجتماعية: يقول السلحوت: “عشت طفولة شقيّة بكل المقاييس، لم يكن هذا مقصورا عليّ وحدي، بل هذا ما عاشه أبناء جيلي جميعهم بشكل متفاوت” فعندما كان الكاتب طفلا تركه والداه ولم يكمل بعد السّنة الثّانية من عمره، برعاية زوجة أبيه لفترة لم يحددها الكاتب، فقد توجها الى الأردن، ولكم أن تتصوّروا حياة طفل ترك بلا أم! لم تكن هناك أيّ رعاية صحّيّة للأطفال آنذاك، ونسبة الوفيات كانت مرتفعة، ومن كان يموت يعزون سبب وفاته للعين الحاسدة أو للقضاء والقدر.
روى الكاتب تفاصيل حادثة فقد عينه المؤلمة ثم كتب: “رضيت مرغما بالمصيبة التي حلّت بي، رغم الآلام الجسدية والنّفسيّة التي صاحبتني لسنين طويلة، وكلّما حاولت الابتعاد عنها ونسيانها كانوا يذكّرونني بها من خلال حنان الجهل والهبل” أمّا عن ختان الذكور فقد شرح كيف كانت تتم تلك العملية بشكل جماعيّ لأبناء العائلة والجيران بعد تأجيلها لسنوات، كان الحلاق بأدواته البدائية يتولى الأمر، مما يحدث خطرا على حياة الأطفال لكثرة الملوثات وبدائية الجراحة.
استاء الكاتب من عدم تسجيل شهادات ميلاد الأطفال عند ولادتهم، فقام بتسجيل تواريخ ميلاد أبناء العائلة الذين يصغرونه عمرا بحجر جيريّ على حائط الغرفة غير المدهون، ثم اشترى دفتر جيب سجّل على صفحاته كلّ مناسبات العائلة من حالات ولادة، حالات وفاة ، زواج وسفر، وعندما وصل الى الاعدادية وعرف مكتب وزارة الصّحة في القدس، قام باستصدار شهادات الميلاد اللازمة لهم.
مواقف انسانية: رغم الحزن والعذاب التي رافقت سطور هذا الكتاب، إلا أنه لم يخلو من بعض المواقف والقصص الساخرة اللطيفة، فقصة قرار الكاتب بأن يلبس ربطة العنق ثم منع والده له قائلا: “هذه لا يلبسها إلا دكتور أو معلم، وأنت لا دكتور ولا معلم، إياك أن تخرج بها أمام النّاس فتفضحنا”، وخوفا من الفضيحة العائليّة أعادها لابن عمّه، كذلك عندما لبس قميصه الفاخر وذهب الى المدرسة فَزَجَرَهُ المعلم قائلا: إياك أن ترتدي هذا القميص الخليع مرّة ثانية! أيضا قصة" ربنا أطعمنا في رمضان،، قصة أكل الثعلب “الواوي، قصة هريسة دير مار سابا، قصة الفتاحة وابن عمّه موسى محمد، قصة التّيس الشّاطر، قصة رسالة الأخ محمد بعد سفره الى البرازيل، قصة الأخ أحمد وعدم التزامه بالدّوام المدرسيّ بعد أن ضمن أنه قد تمّ تسجيله لامتحان مترك الاعدادية، جميعها قصص عاشها مؤلف الكتاب بأحداثها ومجرياتها عن قرب، تفحّصها ونقلها إلينا بلغة سردية لم تفقد بريقها، فقدمت لنا محاكاة ساخرة ومؤلمة في آن معا.
تطرق الكاتب للعلاقة الطيبة التي جمعت عائلة السلحوت المسلمة بعائلة الشّرطيّ موسى ابراهيم المسيحية، وقال: “تلك الأسرة الكريمة هي أوّل من عرفت من إخوتنا المسيحيّين، وعندما شببت تعرّفت على إخوة مسيحيّين آخرين وصرنا أصدقاء متحابين”، كما تحدث عن مرحلة دراسته الثانوية في “المعهد العلميّ الاسلاميّ” وما مر به في تلك الفترة من أحداث، مراسلاته لإذاعة موسكو، رحلته المدرسية الى الأردن، كما تضمن الكتاب مجموعة لا بأس بها من كلمات ال أغاني الشعبية التراثية الفلسطينية والألعاب الشّعبيّة التي ابتدعها الاطفال للاستمتاع بها آنذاك.
النكسة والهزيمة: تحدث الكاتب عن اندلاع حرب 1967م اثناء تقديمه امتحان الثّانوية العامة"التوجيهي"، وكيف أصبح جبل المكبّر ساحة حرب وسط وقع الرّصاص وهدير المدافع، واعتبر أكثر المتضرّرين من الحرب هم أبناء جيله الذين تحطّمت طموحاتهم وآمالهم في بناء مستقبلهم، كان وقْع الهزيمة أكبر من قدرته على الاحتمال، كان يصعد إلى قمّة الجبل وينظر إلى القدس باكيا، ينام ليله باكيا ويحلم أحلاما مزعجة، ثم قرّر العودة إلى البيت في جبل المكبّر، عاد بعد أسبوع من انتهاء الحرب برفقة والده، رافعا سروال الأب الأبيض على زاوية حبل الغسيل أمام البيت، دلالة على الاستسلام.
أخيرا، فهذا كتاب قيّم تناول الصورة شاملة لجوانب الحياة الاجتماعية ومظاهرها، خلال حقبة هامة من تاريخ الشعب الفلسطيني.