الجمعة: 08/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

نقد كتاب: بلاغة العتابا الفلسطينية، العتابا في ميزان النقد الأدبي للدكتور مفيد عرقوب

نشر بتاريخ: 06/09/2021 ( آخر تحديث: 06/09/2021 الساعة: 13:58 )
نقد كتاب: بلاغة العتابا الفلسطينية، العتابا في ميزان النقد الأدبي للدكتور مفيد عرقوب

بقلم: د روحي ثروت زيادة- الكلية العصرية الجامعية
فإن النقد الانطباعي الظاهري يبعد الناقد عن الموضوعية في النقد، ويدخل الناقد في إطار المجاملة الممجوجة المبالغ فيها، فإذا لم يتناول الناقد النص بجميع مستوياته مركزا على العمل الأدبي، ويحاكمه دون الاهتمام بصاحبه كائنا من كان؛ فإنه يغرق في بحر المجاملة والمغالاة فيها. وأظنني في هذه العجالة من التعليق على هذا الكتاب لن أجامل ولن أحابي؛ سأحاكم الكتاب ولا غرض لي عند الكاتب، مع تقديري واحترامي لشخصه الكريم.
بداية لا بد من إبداء الإعجاب بهذا الكتاب المتزن، الذي يقوم أساسه على خطوات البحث العلمي، من حيث المنهج والتبويب والتقسيم، حيث قسم الكاتبُ كتابه في قسمين رئيسين لم يطغَ فيه قسم على الآخر؛ بل تجد القسم الأول يؤسس للقسم الثاني والقسم الثاني يرتكز على القسم الأول، وهكذا فقد جاء الكتاب في قسمين: القسم الأول تناول الجانب النظري في خمس ورقات تناولت النشأة، والخصائص، والقيم المتأصلة في العتابا، والمحسنات البديعية فيها، وألوان البيان من صور شعرية وتشبيهات وكنايات. والقسم الثاني: التطبيقي وجعله في ثماني بوابات تناول فيها أغراض شعرالعتابا. وركز أولا على ارتباطَ شعر العتابا الفلسطيني بذاكرة الفلسطينيين في بلادنا، وأنّ هذا اللونَ من الشعرِ المحكي يظلُّ أحد أبرزِ ألوان أدب التذكّر، الذي يدلّنا بعاميّتِهِ على كلّ ما يتصلُ بالناس وهواجسِهم، ذاكرة الزمان والمكان، الأرض والإنسان، الشوق والحنين والحب، الخوف والغضب والحرب، وكل ما لامس ومسّ الحس والحواس طوال العقود التي طوت.
وقد أبدع الكاتب والناقد د مفيد عرقوب في تعريف العتابا، فكان مطلع بيت العتابا بالأووف الممدودة تعبيراً عن اللوعة والألم. أما عن نظم العتابا ووزن البيت، فيعتمد على فنٍ بديعيٍّ هو الجِناس، فالبيتُ مكوّنٌ من أربع شطرات، الثلاثة الأولى منها تنتهي جميعُها بنفس المفردة من حيث اللفظ، إلا أنّها تختلف في معناها. بينما تنتهي الشطرة الرابعة وهي خاتمة البيت غالباً بحرف الباء أو الألف والباء؛ لأنّها الباب، وهي باب الخروج من البيت ودخول البيت التالي. لذا، فإنّ العتابا هي أبياتٌ، وليست قصائد، إذ إنّها محكومةٌ في جِنَاسِها الذي يصعب نظمُه في قصيدةٍ طويلةٍ.
وأظن أن الكاتب أصاب عين الحقيقة حين تحدث عن نشأة هذا اللون من الشعر الشعبي، حيث إنه ليس سهلاً الإمساكُ بلحظة نشأة شعر العتابا في فلسطين ، إذ نشأ هذا اللونُ على ألسن الشعّار والفلاحين والرعيان منذ مئات السنين. واختلفت الآراء في النشأة، فمنهم من ردّ العتابا إلى القبائل العربيّة التي نزحت من العراق وتوطنت بلاد الشام بعد الفتح العربي، والبعض ينسبه إلى أواخر العصر العباسيّ حين انتشرت اللهجات العاميّة وكثر اللحن.
ويشير الكاتب إلى أن العتابا في فلسطين ثقافةً شعبيّةً بكل ما يعنيه الشعبيُّ من معنى، فأيُّ فلاحٍ دَارَتْ عليه الأيامُ، أو راعي غنم كان قادراً على التعتيب دون أن يكسر بحرفٍ في الوزن. إلى حدّ أن النساء تجرأن على فحول الشعّار فيها ونظمن العتابا، ومنهن من كانت تردُّ على عازف اليرغول كذلك.


وتناول الكتاب براعة شعّار فلسطين الحَدائين منهم والزجّالين في قول العتابا، وأنّ ميزة شعّار وحَدائي فلسطين في العتابا، جاءت من قدرتهم على ارتجالها بشكل تلقائي، فانتشر تباري الحَدائين في الأعراس قبل النكبة وبعدها من خلال العتابا. والتباري بالعتابا كان على شكلين: إما أن يقول الحادي بيتاً كاملاً من العتابا، وبالتالي على الحادي الآخر الردّ عليه ببيت على نفس القافية، وهذا ما كان يُعرف بـ"اللـحاق على الحرف". غير أن الشكل الثاني من التباري يُعد الأصعب والأكثر بلاغة وإثارة! حيث يقول أحد المتبارين نصف بيت عتابا مكون من شطرتين، وعلى الآخر إكماله بشطرة ثالثة ومن ثم قَفلهِ. على الشاعر المبادر هنا البحث عن مفردة يصعب صرفُها في بيت كامل؛ أي تكرارها في ثلاث شطرات؛ من أجل الإيقاع بخصمه وإحراجه.
وهنا ومن خلال دراسة سريعة للكتاب يلاحظ القارئ أسلوبا متميزا من حيث حُسن التناول والبحث والدراسة والإخراج، ومما يُسجل للكاتب الدكتور مفيد في هذا الكتاب استخدامُهُ لمنهج نقدي جديد مناسب لدراسة هذا اللون من الأدب الشعبي الفلسطيني؛ ألا وهو منهج التقليب، الذي يقوم على تقليب الوجوه في الذهن، وتقليب المعاني المحتملة، هذا المنهج مستوحى من المنهج الذي اعتمده ابن جني في كتابه الخصائص، وهذا المنهج أيضا يتطلب من الناقد براعة فائقة في التعرف إلى اللهجات الدارجة وخصائصها المرنة للوصول إلى معانٍ جديدة.
ولأن هذا اللونَ من الشعر الشعبي العامي يقوم على البلاغة والبيان وأصناف البديع، وعلى وجه الخصوص على الجناس والسجع والمقابلة والترادف، كان لابد من استخدام هذا المنهج الجديد؛ كي لايقع في بحر التكرار والتقليد، فقد حفر الكاتب والناقد الدكتور مفيد بئرا ونهل منها ماء عذبا زلالا، قدّمه للقارئ في قوارير من فضة لا يشرق شاربُها أبدا.
ويشار إلى أن كاتبنا لم يورد في كتابه كل ماقيل من أبيات عتابا في فلسطين كدراسة استقصائية؛ بل عمد إلى اختيار أجمل ما قيل من أبيات العتابا كدراسة تمثيلية تناسب تقسيم كتابه إلى بوابات بدل الفصول والأبواب والمباحث، ولعله أيضا في تقسيمه هذا أبدع وأجاد، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على فطنة وذكاء وتمكن كاتبِنا من أساليب النقد الأدبي الشائعة والمدارس النقدية المتعددة.
ولم يغب عن بال كاتبنا ذاك الجمال الساحر في العتابا وما تحدثه تلك االمشطورات من راحة نفس لسامعها فراح كاتبنا يظهر جماليات تلك المشطورات، وما تزينت به من جناس وسجع ومقابلة، والأمثلة على ذلك يعج بها الكتاب في كل بوابة من بواباته.
وإن كان لا بد من قول يقال؛ فإننا أمام كتاب جديد بمنهج جديد وأسلوب مشوق، هذا الكتاب النقدي الأول في هذا اللون من ألوان الأدب الشعبي، ومثلُ هذا العملِ لا يصدر إلا عن عالم فذٍ نطاسي حاذق يعلم دقائق الأمور في الأدب والنقد، يشخص الداء ويصف له الدواء، فيستحق هذا العملُ الرائعُ جُل التقدير والاحترام، لاسيما وقد فتح صاحبُه البابَ على مصراعيه للباحثين والدارسين؛ ليبنوا عليه دراساتٍ جديدةً قد تكون عناوينَ رسائلَ ماجستير ودكتوراه.
وأخيراً وليس آخراً، ليس من باب المجاملة أقول؛ بل من أوسع أبواب النقد الأدبي، وبكل صراحة هذا العمل النقدي الأدبي تكلل بالنجاح بجميع عناصره، وهذا لا يعني الكمال، فالكمال لله وحده؛ ولكنه يعني النجاح والمثابرة.