الكاتب: المتوكل طه
***
بعد هذا الكابوس ، أردنا أن ننامَ، فقط، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين .لكنّ خليل وكان أحدهم الذي تماوتَ ، قد خرج محمولاً على كلماتٍ ستصل إلى حدّ القشعريرة ، واستمعنا إلى قلبه الطيّبِ وهو يغمغمُ أغنياتٍ حفظناها معاً في المعتقل ، عن الحِصن المنيعِ والبلادِ والغلّابةِ والانتفاضةِ العبقرية .. فكان صوتُه أعلى وهو يقول : "لا يوجد ثغرةٌ صغيرة في القلعة .. أخشى عليها من الانهيار" ، وربما ، هذا الذي أوجعَه أو أماتَه ! فماذا عسانا نقول لأُهله الذين ربطوا نَوْمَهم بأحلامه المقتولة ، ولم تُحقّق العناقَ الواجب بين فؤاده المحتشد وقرية أبيه المنهوبة ؟
كان حمامةَ السماء الأنقى ، واسماً من أسماء السماحة والانشراح والطاقة الإيجابية ، وكانت الأجراس ترنّ بين ضلوعه للحياة والأمل والإشراق، مثلما كان معجوناً من طين هذي الأرض ..
ومَن يحبُّ بلادَه يرى الله !
***
يا خليل ! كلُ القصصِ سعيدةٌ ، لكنّ النهاياتِ مُبكية ، فالحركة العملاقة التي شملتنا بعباءتها الساخنة ، لنعودَ معها إلى الأرض الأولى .. قد بدّلت مكوّناتها ، من النسر إلى الياقة البيضاء، وصارت إطاراً سياسياً تخطّى سؤالَ التحرير ، وأخشى أنها أمست جزءاً من منظومة الإقليم الكابي ، وراحت تقدّم الفُتاتَ المعيشيّ بإطار سيكولوجيٍّ باعتباره تجلياتٍ للنصر ! يبدو أن الحكايةَ تتغيّر مع الوقت ، مثلما يبدو ، أيضاً، أن الماضي لا يطاردنا بل نحن مَن نلاحقه. لكنّ فتح الكادرَ القادرَ الحيَّ الواعي الوحدويّ.. سيُبقي على الحركةِ خرزةً على قلادة الزمن .. وأن حفيدتَكَ التي تشبكُ الغيومَ بجدائلها وتعطي لليل كُحلَها .. ستحفظُ النشيدَ تماماً، وستملأُ حقيبتَها بأقواسِ قزح.
.. وسنرى حفيدَك خليلَ الصغير ينظر في كأسِ النار، ويبتسمُ ، والأوارُ يلمعُ على شفتيه .
سيولدُ من فتح المجدولةِ بالجبهاتِ والقوى المُقاوِمة، وستصل عرباتُه إلى أقاصي الشمس،
وتكتمل معه المعجزة، وسيضحك له الزمان!
ستكون خيولُه بلا عددٍ ، جلودُها ماءٌ،
وأجنحتُها غامضة، وستبدو أشجارُه ترياقاً للقلوب.
ويدقّ عُنقَ الخرافة.
إن فلسطين التي تصرخُ من آلام المخاض.. سيتناول أعداؤها العَشاءَ في الجحيم،
وسيُغطّي الأرضَ دمهُم، ويتبعهم إلى آخر الحشرجات.
ستعلو صواريه، وينزل بالغيث حيثما يشاء، وسيفقأ عينَ الثور.
ستشكره البواشقُ، وتتلاشى صورُ أعدائه كالهواء.
ستحترق الأبواقُ، ويذوب المعدنُ من الصراخ.
ستفيضُ الوديانُ والحُفر والأخاديد بالعفونة
، إلى أن تتجشّأَ الفِراخُ، وتدبَّ النارُ والطهارة، وتمطرَ غيومُ الصيف
سبعةَ أيامٍ بلياليها ، من الناقورة إلى أمّ الرشراشِ ومن بحر البرتقال إلى النهر المقدّس.
سيجفّ على قميصه النُّعمانُ، ويتقشّر فوقَ دفقاتِ العَرقِ تحت الظهيرة.
سيدخل المدينةَ العصّية، كما دخلوا مدائنَ الأساطير وسيلاعبُ السَبْعَ في الكمان.
سيحمل إليه أبناءُ التّيه والبرابرةُ صناديقَهم، ويفرحون بالعفو.
سيعضّ قلبَه عطرُ الزهرة ذاتُ الخُصلاتِ الفاحمة.
سترقصُ له الغزلانُ في الغيوم، ويعذّبه بطنُ الأنثى، ويحلمُ بحليبِ الياسمين.
سينثرون الأرزَ تحتَ أسوارهِ، ويشرَقُ بالحِبْرِ الأبيض، وتسبحُ على جدرانه الغاباتُ والأحلام.
وحينما يبلغ القمةَ سيرى وُعورةً لا تبلُغها
أو تقطعها إلاّ الآلهة، سيرتجف ويقشَعرّ، هذا القوي العنيد ، ولن ينحني، لأنه المجموعُ الوطنيّ البعيدُ عن العارِ ، والتشقّقِ ، وشهوةِ الخشب.
ولن يتعجرفَ كالمُهر الأَرْعَن ، ولن يجهش باللغة الخاوية.
لن يخذلَه جسدُه، ولن تتجرّأ عليه الأيام،
وسيبقى موحِّداً زاهداً بسيطاً.. وباسلاً ياسراً إلى أنْ يشيبَ الأحفادُ، ويحملوا خارطةَ الروح.
فاتبعوا حُلمَكم المخبّأ في العصمةِ والنارِ والأدهمِ الشجاع!
وتلقّوا الطعنةَ النجلاء التي ستفتحُ كُوةَ النهار .
وإنّي أراه يا خليل!
فاحذروا !
إنكم تدخلون دوّامةَ البؤسِ والاستلاب ، والإلحاقَ ، وتصادمَ الأكتاف، والبكاءَ على حرّيةِ البنادق ، والتبريراتِ الخائبة..لتخرجوا أكثر كرامةً..
وإنّي أراه .. إنّي أراه .
***
وكنتُ أرى أبا أشرف هادئاً مثل غابة ، وعند ذكر فلسطين ، بمفرداتها الصعبة الذابحة ، يعرقُ مثل حصان برّيّ ، فأدرك أنه يتحفّز لمواجهة الشيطان الذي بدا عارياً من كل تنكّراته .
ويوم رحيله المتجدّد ، يتراءى الصمتُ حارقاً يدبّغ وجوهَ الذاهلين ، الذين يستذكرونه طَلِقَ الوجه ينبوعاً عذباً طازجاً مثل الفردوس المأخوذ إليه .
سينبت خليل مع الربيع الآتي حنّونا وشقائقَ وفرفحينا ، وسينهض في نسغ الزيتون عَرشَا أبدياً لسلام هذه الأرض البهيّة .
واليوم ، يحقّ لنا أن نحزن ، فعلى مثله تبكي البواكي ، ويحقُ للبلاد أن تتنهنه وتذرفَ الحنظلَ المخضلّ بالفجيعة، ولا بأس إنْ جاح وناح الطيرُ وارتعش الشجر !
.. لقد كان خليل جنّةً تمشي على قدمين .
لفتح الحركة العملاقة ، وللأمعريّ شاهدِ الإثبات واسمِ الشهداء ، ولأحبائكَ الرفاقِ في الفصائل المؤصِّلة الصُلبة المحبّين الشرفاء، ولفلسطين الثاكل العظيمة ..كلُ العزاء على غيابك الثقيل.
ولفلسطين أن تجد نبعاً جديداً في جسدها يمدّها بما يليق من ماء يصلح للبكاء، وَلَها أن تجوحَ على ابنها الذاهب إلى الأبدية الغائمة.
***
إن أصدقاءكَ ، الذين لا يفصلهم الفصيل ، يودّعونكَ وقد خسر كلٌ منهم شيئاً من البهجة والطلاقة والمحبة التي كنتَ تمثّلها . وسنفتقدُ جميعنا واحداً كان يخبّ مثل الغزال ، وتفيض منه الأنهار ، ويتوزّع مثلَ الغيمة الخفيفة على كل القلوب .
اليوم، سنملأ صحنَ الدمع ونرنّق وشاحَ الشروق والتراب بالماء الكاوي على فجيعة تدوّي فينا.
يا أبا أشرف ! يا خليلَ الجميعِ دون استثناء ! لقد كنتَ اسماً يليق بالحرّية والصداقة والعطاء والوفاء والوحدةِ الوطنية الحقّة ، وصرتَ حلماً ينبغي أن يبقى واجب الوجود، بكل ضحكاته ولمساته ومناديل لغة جسده الراعفة بالطِّيبِ ، الذي ما زال يعبقُ في الأمكنة.
وعندما نمرّ من جانبِ قبرِكَ المضيءِ ندركُ أن بعضَ الترابِ مدفونٌ في القلب .