دراسة في بلاغة الخطاب
الباحث : د. أحمد عزيز/ نابلس- مخيم بلاطة
يتعايشُ في السيرة الذاتية الفلسطينية الكثير من الروافد السّردية والمحركات الخطابية، من قَبيل الامتزاج الفني والتفاعل الأجناسي؛ حيث تُعتبر أشكالاً خطابية مُتحاضِنة مع السيرة الذاتية، ومُنسابة في سردها ومتجاذبة في البناء السِّيري، ولا شكَّ أنّ لها مُسوغاتها الوظيفيّة والحضورية الزمكانية، ولها ارتباطاتها وصلاتها بكاتب السيرة.
الأسطورة والخرافة والكرامة أجناسٌ حكائية تُحاول الإجابة عن أسئلة وجودية، تُشكل هاجساً لتفسير الحياة، وكشف أسرارها والدخول في عوالمها، والبحث في تنافذ هذه الأجناس مع السيرة الذاتية هو بحث في خطاباتها السائحة وتجلياتها وتمثلاتها واستعاناتها السردية وتعالقتها الخطابية.
عمدت السيرة الذاتية الفلسطينية في كثير من نماذجها إلى استلهام الأسطورة وتوظيفها في مقاماتها وسياقاتها السردية، بالاستفادة مما تشتمل عليه من عمق وثراء، وفتح النَّص تزامنياً على صعيد العلاقات المتشابكة بين المكون الأسطوري والمكون التجريبي، وتناسل النَّص بوصفه إنتاجاً معرفياً إبداعياً مُستمراً، وقد وجَدتُ الأسطورة في السيرة الذاتية الفلسطينية غنية بتمثلاتها على سبيل الأسطورة المُركّبة التي ينتجها الخيال البشري والنُبوغ العقلي، ويجمعها في عديد من العناصر البصرية في صورة أو مشهد، وتخليق الأسطورة عبر تصورات ذهنية واسترسالات في التّخييل والتحليل والتصوير، في إطار الأسئلة العميقة الحادة حول مشاهدات الطبيعة وظواهرها الجاذبة، وكذلك ظهور الأسطورة في صورة صراع بين الأنا والنّقيض، وصراع الروايات والخطابات، وما يصاحب ذلك من إسقاطات مثيولوجية، وظلال أسطورية قديمة من مدونة الأساطير العربية والعالمية.
أيضاً حضور الشخصية المعاصرة، كالرئيس الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات" والشاعر "محمود درويش" وكيف خَلَعَتْ عليها السيرة الهَالة والعَظمة والرّمزية، والمجد المُختار.
والحضور الأسطوري للطبيعة وسلطتها الجمالية والملحمية، وتحرر الأسطورة من صورها التقليدية وتشابكاتها الدِينية، وبعث الأساطير وبثها وتأثيثها في الخطاب من منطلق الوعي الأسطوري الذي يَستقوي به كاتب السيرة ويستأنس بدفئه النصي.
أمّا انفتاح السيرة الذاتية على الخرافة؛ فإنه يعكس رغبةً في توثيق الصلة بالمرويات والمحكيات والمثولوجيات الفلسطينية، مع استعادة للذاكرة باستحضار جملة من الخُرافات، كخرافة البرق والرعد وخرافة الغُولة والعمورة وظِل المَيت، وتجلية الحكايات الخرافية وطقوسها ومُناخاتها النفسية وفضاءاتها العجائبية، وعوالمها الخَفيَّة والمُخيفة.
إنّ انسياب الخطاب الكرامي في السيرة الذاتية هو استنطاقٌ للموروث الشعبي والديني، بما يحمل من دلالات ورموز، وعودة للمحكي القديم الذي تُجدده السيرة بسردها وتقنياتها الحكائية، ومنها الكرامة الأسطورية التي تَصف الولي العملاق في صورته الجسمية الخارقة، والكرامة العجائبية المُتمثلة في الولي المُنقذ الذي يتمتع بالمهارة الفائقة على التّصرف في الأزمات والتَّغلب على المصاعب وتخليص الناس منها، في أجواء صوفية تتغلبُ على صدام الحوار والجسد.
وكرامة الولي المُقاتل والحكاية البُطولية، هي صورة تُحيل على تحولات القتال من عوالمه المادية إلى الثقافة الشعبية الدينية الواسعة التي تعكس الحاجة الدائمة للإحساس بالأمان والقوة، والاستقواء بفضاءات غيبيّة لتحقيق النصر والغلبة، والكرامة المُمانِعة التي تلتصقُ بكثيرٍ من صور البطولة والتضحية في مواجهة عَبثية الإنسان وجوره وتسلطه، وكرامة الرجل المَبروك، وبعض الشخصيات الإشكالية الالتباسية التي تنفتحُ كُليةً على أسرار العقل كما جاء في كتاب تاريخ الجنون للمفكر الفرنسي ميشل فوكو.
تتجلى الأسطورة والخرافة والكرامة عناصر دالة في السيرة الذاتية الفلسطينية، وتُمثلُ مصدراٍ ومرجعاً مهماً، وتفاعل كاتب السيرة الذاتية هو تفاعل أصيل مع الهوية الوطنية والموروث الشعبي، وهذه الأجناس الحكائية تُشكل حاضنة ثقافية، وظاهرة فنية في السيرة، تتحاضن مع نسيجها الخطابي وتطوعه لاستقبال كل أنماط الخطاب، مما يسترعي فهم وتحليل السيرة الذاتية على ضَوء هذه المُعطيات والتفاعلات.
إنّ النّاظر في سيرة حسين البرغوثي "سأكون بين اللوز" وسيرة وليد سيف " الشاهد المشهود" وسيرة حنا أبو حنا " الأجزاء الثلاثة .. ظل الغيمة، مهر البُومة، خميرة الرماد، وسيرة المتوكل طه " أيام خارج الزمن" يكتشف قيمتها التاريخية والمثيولوجية والأبستمولوجية في مواجهة الرواية الصهيونية والتصدي لمقولاتها المُزيّفة.