الكاتب: منجد صالح
في بيت متواضع من ثلاث غرف أرضية مبنيّة بصورة عشوائيّة بالباطون غير المقصور وغير المزيّن بحجارة خارجية منقوشة، "باطون حاف"، غبر مُتقن البناء، بنتوءات و"تفلطحات" من الداخل ومن الخارج.
"أبو الرعد" بالكاد استطاع، بشق الأنفس، بناء هذا البيت الإسمنتي بدل ومكان "السقيفة" من غرفتين صغيرتين، التي كانت مبنيّة من الطين يعلوها سقف متداعٍ من "الزينكو".
عاش أبو الرعد في بيته "الجديد" مع زوجته سعديّة وأولاده الخمسة الذكور، في قرية صغيرة من محافظة طولكرم الحدودية، التي مضى على احتىلاها من قبل جيش "موشيه دايّان" عشرة أعوام.
يقتات أبو الرعد وعائلته المُكوّنة من سبعة "أنفار" على ما تجود به موسميّا أرضه التي لا تتعدّى مجموع مساحاتها العشرة دونومات.
في موسم "جدّ" الزيتون يجهد هو وزوجنه وأولاده الذكور الخمسة في قطاف الحبّات "الخضراء والسوداء" من أشجار الزيتون "الروميّة" العتيقة ومن "الغرسات" الفتيّة التي زرعها بيديه.
في مواسم "الماسية" يُنتج ما يكفي مونة عائلته من الزيت و"الرصيص والمملوح"، لكن في سنوات "الشلتونه" فبالكاد تكفي غلّته من زيت الزيتود لثلاثة شهور، يضطر معها والحالة هذه أن يستدين من المختار بعض الزيت إلى الموسم القادم حيت يُعيده إلى المختار وفوقه "صاعين" من الزيتون.
ابنه الكبير البكر، "أول العنقود"، "الرعد"، خطّت شارباه والتفّت عضلاته وقوي زنده وبدت عليه مظاهر وعلامات الفحوله المتورّدة.
بدأ "يزنّ" في أذني أبيه وأمّه برغبته الأكيدة في اكمال نصف دينه والزواج من "بنت الحلال"، "قسمته ونصيبه".
بقي هذا الموّال يُعزف يوميّا و"يُطنطن" في جنبات حيطان البيت صبح مساء، وحين الأكل وقبل النوم ومع كلّ شربة ماء.
يريد "الرعد" تحقيق رغبته ومقصده ومُراده في أقرب الآجال، ويكاد يقول في التوّ والحال، وإلّا فدونهم "الزنُّ" منه و"الطنُّ" كالدبّور أو غير ذلك الخصام والجفاء.
فتّشوا له عن عروسة في القرية لكنهم لم يوفّقوا، فهم من أفقر عائلاتها، فانتقلوا إلى القرى المجاورة يبحثون عن صبيّة تُصبح في قادم الأيّام كنّتهم "المصون".
بعد شهر من البحث والتحرّي و"نبش" تحت كل "صرارة" وحجر، وجدوا ضالّتهم في قرية تبعد عن قريتهم عشرة كيلومترات. صبيّة بهيّة الطلعة مليحة القدّ ممشوقة القوام دقيقة الأنف مصفوفة حبّات اللؤلؤ في فمها، لكنّها تكبر "الرعد" بخمس "رعدات"، أقصد خمس سنوات.
أقيمت الأفراح والليالي الملاح والدبكات والسهرات على بيادر القرية سبعة أيّام بلياليها، ودخل "الرعد" وعروسته "فتحية" في "القفص الذهبي"، أو بالأحرى في غرفة من الغرف الثلاث، في قفص من الباطون و"الخشب".
"لعلعت" الزغاريد من النساء "الصاحيات المُنتظرات" فجر ليلة الدخلة حين خرج "الرعد" من غرفة الزوجية وهو نصف عارٍ يُلوّح بيده ب"شرشف" أبيضٍ صغيرٍ "ممهورٍ" ببقعٍ من قطرات الدم الأحمر القاني من "عفّة" زوجته.
سارت الأيّام والليالي بعد ذلك رتيبة ثقيلة، يذهب "الرعد" باكرا إلى عمله في الحقول أو في ورش البناء، ويذهب إخوته الأربعة إلى مدرسة القرية، وتذهب الأم وراء أعمالها المنزلية ووراء أعمالها خارج المنزل.
تبقى الزوجة فتحيّة في معظم الأيّام لوحدها في البيت مع حماها "أبو الرعد"، الذي يقضي معظم يومه جالسا أمام البيت المُطلّ على الشارع العام حديث "التزفيت"، يلتهم سيجارة وراء الأخرى من سجائر دخان "الهيشة"، التي تطرد، من قوّة رائحتها النفّاذه، حتى العصافير و"البسس" من جوار بيته.
أبو الرعد بدأ يتعوّد على كنّته "الخدوم" التي تُكنّ له كلّ الإحترام والتقدير، تعتبره مثل والدها، وتقوم على تلبية طلباته:
اعمليلي كاسة شاي يا عمّي يا حفيظة، وزوّدي السكّر، يُخاطبها والد زوجها.
حاضر يا عمّي، تُجيبه بلطف وأدب.
حضّري لي "بقرج" القهوة السادة ياعمّي.
حاضر يا عمّي.
وما بين كاسة الشاي وبقرج القهوة السادة كالعادة وزيادة، دخل الشيطان ثالثهما ...
رجع "الرعد" ذات يومٍ باكرا من عمله إلى البيت بسبب جرح بسيط أصاب أصبعه، فوجد والده على السرير "يمتطي" زوجته "المصون".
صُعق و"تمسمر" في مكانه على بعد خطوتين من "وكر الخطيئة"، استلّ خنجره لكنه أرجعه إلى جرابه، لم يستطع أن يتفوّه بكلمة أو يقول شيئا لأبيه، ولا لزوجته من تحته.
"زغللت" عيناه و"كرّز" على أسنانه، وخرج الزبد من فمه، واندفع خارج الغرفة وهو يصيح ويهذي:
"يا ناس، تعالوا شوفوا، تعالوا اتفرّجوا، رجعت من الشغل بدري ولقيت أبوي فوق مرتي "عالتخت"، أبوي بيسخّم بمرتي، أبوي بيفعل بمرتي، أبوي أبوي أبوي ... مرتي مرتي مرتي!!!
ولم يترك حارة ولا شارعا في القرية الصغيرة إلا وذرعها وهو يصيح ويهذي:
أبوي ومرتي، أبوي ومرتي، ...
حتى أصبحت الفضيحة بجلاجل، ودخلت كل بيت في القرية وفي بيوت القرى المجاورة ...
أمسكوا به و"شحنوه" إلى مستشقى الأمراض العقلية في مدينة بيت لحم، حيث مكث في "العصفوريّة" شهورا.
كاتب ودبلوماسي فلسطيني