الكاتب: فراس حج محمد
تنويه: صدر مؤخّراً كتاب "وقفات مع الشعر الفلسطيني " للأسير الكاتب كميل أبو حنيش عن وزارة الثقافة الفلسطينية، وفيما يأتي مقدّمة الكتاب.
هل للكاتب وجوه متعددة؟ أم أنها الكتابة هي ذات هذا التعدد؟ في هذا الكتاب ثمة محور آخر للكتابة ينتهجها كميل أبو حنيش، الروائي والشاعر وصاحب المقال السياسي التحليلي. هذا سؤال مفتوح متصل على امتزاح الإبداع، كتابته من جهة وتقييمه من جهة أخرى، فهل الشعراء النقاد وهم يعالجون الشعر نقديا أقدر على النقد بمفهومه الأوسع من النقاد غير الشعراء؟
تُرجع مقالات هذا الكتاب "وقفات مع الشعر الفلسطيني" الدارس إلى الناقد الأول في الشعر العربي، وقد كان شاعرا، فالشعراء هم أنفسهم كانوا نقاد القصائد قبل بروز الناقد المتخصص، وحتى الناقد المتخصص بعد ذلك لم يكن بعيدا عن قرض الشعر وإن لم يعرف به ويشتهر. إنها إذن أدوار يؤديها أصحاب الإبداع تجاه بعضهم بعضا. كانت تنطلق من إبراز العيوب وانتقادها حتى وصلت إلى تقويم الشعر والتفريق بين جيده ورديئه. فثمة دور للناقد إذن، وكانت مهمته وظيفية متصلة بالإبداع وإتقان الصنعة الشعرية في دائرتيها الكبيرتين اللفظ والمعنى.
في كتاب كميل أبو حنيش هذا الذي نضعه بين يدي القراء ودارسي الشعر الفلسطيني ثمة ما يؤشّر نحو تلك الذائقة المصقولة والذهنية المتوهجة والدربة عالية الحساسية في تناول النصوص الشعرية التي قاربها كميل، فكان يذهب في هذه الوقفات وراء شهوة نفسه المعرفية، وكان يكتب بكل ما أوتي من قوة ومعرفة ليعبّر عما أحدثه العمل المدروس أو المقروء من أثر في نفسه، لا يمدح الشاعر ولا الشعر، وإنما كل همّه متجه نحو الكشف عما رآه في النص من تجليات ثقافية، فجاءت هذه الوقفات كاشفة عن العالم المخفي والمتجلي للشاعر أو للشاعرة كما يظهر لكميل خلال القراءة أو التحليل.
لم يقف كميل أبو حنيش في هذه الوقفات على حدود القراءات الانطباعية المتعجّلة، مع أن الانطباعية ليست عيبا نقديا كما أزعم. بل غاص في النص فاعلا ومتفاعلا مع النصوص كاشفا عما فيها من جماليات، فكأنه، وهو الشاعر والذواقة والمثقف، يبني منهجا نقديا خاصا فيه منطلقا من النص محاورا ما فيه من أفكار كاشفا عما فيه من رؤى، أو كأنه كان باحثا ثقافيا في تلافيف القصيدة عما يشبع نهمه المعرفي والجمالي، فاقترب من آليات النقد الجمالي المعروفة لدى نقاد لهم باع كبير في النقد، كمحمّد مندور كمثال للناقد الذي اختط لنفسه طريقة في فهم الشعر وقصائده دون أن يكون أسيرا لمنهج واحد محدد.
يتألف هذا الكتاب من تسع دراسات، أسماها الكاتب وقفات، فتحدث عن شعراء فلسطينيين وشاعرات فلسطينيات، ولم يكن معنيا سوى بالنص وجمالياته من خلال ما كان يصله إلى المعتقل من كتب شعرية ودواوين سواء من خلال هدايا الكتّاب له شخصيا، أو من خلال ما يوصله إياه صديقنا المشترك وصديق الأسرى الأستاذ المحامي حسن عبادي ضمن مشروعه العبقري "لكل أسير كتاب" هذا المشروع الذي عرّف بجيل كامل من الكتاب الشباب إلى أبناء الحركة الأسيرة، وها هو ابن بارّ من أبنائها المقاومين يعرّفون القراء على هذا الجيل وأصوات منه جديرة أن تدرس وأن يقرأ شعرها وأدبها ورواياتها. وإنه لمحفزّ كبير للكتاب والشعراء أن تدخل كتبهم إلى داخل المعتقلات، وإنه لشرف أكبر أن يهتم الكتاب الأسرى بها فيتناولونها بالقراءة والدراسة والنشر عنها. إنهم، وهم الأسرى القابعون خلف القضبان، يتمردون على كل ذلك فيفرّون مع الشعر ويحلقون ويوصلون أصوات هذا الجيل الذي كثيرا ما عبر أبناؤه عن تواضع الاهتمام النقدي بما يكتبون، فيأتي الاهتمام من داخل المعتقلات. إنها مفارقة ذات دلالة قوية، ولعلها محرجة لنا نحن الطلقاء خارج الأسوار الحادة.
لقد كنت واحدا من هؤلاء الشعراء الذين كتب عنهم كميل في هذا الكتاب، وخصني بوقفة، وكان هناك أيضا ثمانية آخرون وهم: أسامة ملحم، وآمال عواد رضوان، وإيمان زيّاد، وشذى أبو حنيش، وعفاف خلف، وفاتن مصاروة، ومرزوق الحلبي، ونداء يونس.
لم أكن واحدا ممن كتب عنهم كميل فقط، بل شرّفني بأن أبني مادة الكتاب وأحرّرها، فارتأيت أن أرتّب هذه الوقفات أبتثيّا حسب أسماء الشعراء المكتوب عنهم، مخالفا ترتيب المؤلف نفسه الذي أعطى لكل مقال رقما ضمن سلسلة حلقات بدأها مع الشاعرة شذا أبو حنيش وأنهاها مع الشاعر مرزوق الحلبي.
لم تكن هذه المقالات هي كل ما كتبه الأسير كميل أبو حنيش في الشعر، بل إن جعبته تحمل العديد من القراءات الشعرية لشعراء عرب أيضا، وكذلك لروائيين فلسطينيين، تمّ تأجيل نشرها لكتاب قادم، أو كتب قادمة، لعلها تسدّ ثغرة في جدار الثقافة أو تبني مدماكا في معمار الأدب الذي يحتاج إلى دارسين ونقاد كما يحتاج إلى مبدعين.
آمل أن يصدر كتاب كميل أبو حنيش القادم وهو معنا، ويتنسم نسائم الحرية، هو والأسرى كافة.