الكاتب شفيق التلولي
أنا من يعرفُ ماذا تعني الشمس؛ لأنني ولدتُ تحت قرصها، فالتقطتَني القابلةُ من رأسي الصغير بشالِ أمي؛ كي لا تلسعُني أشعتُها يوم أطلقتُ صرخة الحياة، لم أكن أعرفُ أن تلك الصرخةُ ستأخذُني إلى عوالمَ سِرتُ أهذي بين دروبها.
ما زلتُ أذكرُ شجرة التفاح التي كانت تتوسط بيتَنا القديم وأرجوحتي المعلقة بأغصانها، تلك الأرجوحةُ التي اعتدتُ التحليقُ بها؛ جعلَتني أُطلُ على العالم، أحاولُ اكتشاف الفضاء البعيد، أما أعشاش العصافير التي كانت تسكنُ سقوف بيتنا القرميدية، طالما أخذَتني زقزقتُها إلى صباحاتٍ تلمستُها من أشعة الشمس بينما تتسللُ من شقوق القرميد، وكأن زقزقتها تغريدٌ ينثالُ من ثقوب الناي.
قيل لي إن أول ما نطقتُ به من كلماتٍ كانت كلمة "طائرة" وأشرتُ إلى السماء، لا أدري إن كانت انطلاقةً إلى براح الإبداع؛ لعلها تحليقٌ روحاني يحملُني إلى سر اكتشاف سحر الكلمات وما يجعلها تكتسي بأثواب الجمال، تلك الطائرةُ حملَتني إلى الغمام حتى أضحى ملاذًا أهربُ إليه كلما وقعتُ في شَرِك غِواية الكتابة؛ عساني أفيضُ بشهوة الامتلاء لحظة انبعاث النص.
في السجن عرفتُ الشفق لحظة استراق الغروب بينما أشعة الأصيل تتسرب من بين قضبان النافذة العالية، في المعتقل تَحلُمُ بالشمس، تُعيدُ اكتشافها، تعدُ الأيام كما تعد النجوم التي ترقبها كل ليلة، أستحضرُ الياسمينة التي كانت تتعربش بباب دارنا قبل أن تلتهمها الجرافات الإسرائيلية وتلتهمُ معها شجرة التفاح وأرجوحتي، حفظتَ نوافذ الأسر وجدرانه، كتبتَ حكاية الشمس بحبر الشوق، نقشتُ اسمي على جدران زنزانتي، خرجتُ وفي جعبتي ما أستعيدهُ للكتابة في رحلة البحث عن الحرية.
حزنتُ عندما وجدتُ أمي قد أحرقَت قصائدي ليلة اعتقالي خشيةً من جنود الاحتلال، فتوقفَت ماكنتي عن تطريز الكلمات ريثما أستجمعُ أحباري؛ لأملأ بها أسفاري.
ولأنني اعتدتُ الجلوس على حافة بركة "أبو راشد" في مخيم جباليا مسقط الرأس والقلب أقذفُ الحجارة إلى المياه الراكدة، أصنعُ من دوائرها ما يستثيرُني ويستنفرُ قلمي الحبيس، عدتُ إليها متحرشًا بالزمن؛ علني أستعيدُ لياقتي الأديية، كتبتُ بعض النصوصَ والقصائدَ وكذلك القصص القصيرة، نشرتُها في الصحف اليومية آنذاك.
سرقَتني السياسة والمقالات وساحات النضال، فباعدَت بيني وبين الأدب ردحًا من الزمن، لكنني بقيتُ مولعًا بالقصائد والأغاني وما بين الكتب من قصصٍ وروايات، أستمعُ لقباني ودرويش، أقرأُ لكنفاني وبورخيس، توقفَت ساعتي عند حدود الزمن الذي راوحني بين الوطن والغربة، بين غزةَ ودمشق التي كنتُ أرقبُ منها جبال الحرمون؛ علها تحملُني إلى الجرمق.
في قاربٍ صغير جدفتُ بمياه بحيرة مزيريب؛ عله يحملُني إلى بحيرة طبريا، خاب فألي، فالطريق إلى فلسطين باتت طويلةً، أطول من الطريق إلى السويد، والروح معلقةٌ بين الضفتين، روحٌ انشطرت نصفين، نصفٌ في سورية ونصفٌ في فلسطين، جف نهر اليرموك، اُغتيلت أرجلُنا كما اُغتيلت أحلامُنا.
في مقهى الهافانا الدمشقي رحتُ أبحثُ عن ممحاة الماغوط أمحو ألم ركبتي التي سحقَتها أجنحةُ الظلام في غزة، عبثًا أحاولُ لملمة عظامي التي طُحنت تحت جسر فيكتوريا على وقع جئير عربات النقل العمومية في رحلة دورانها باتجاه بردى، فكتبتُ نصفي الآخر؛ لعلي أمحو بممحاة الماغوط القهر والوجع.
في غزةَ نزعَت المدينة ثيابها وارتدَت أشجار التين البنغالي بدلاً من أشجار الكينا والبُنسيان والزنزلَخت، انجرفت بيارات الربتقال وحواكيرها وبساتينها، ارتفعَت أبراجها السكنية، حالت دون أن يرى أهل المدينة بحرهم الكنعاني العتيق، تغيرَت معالمها وملامحها، شاهَت آثارها، كُنسُها ومساجدها، تبددَ عبقها.
في غزةَ مررتُ ببيتٍ مهجور، ساقَني إلى كتابة رواية زمن الشيطنة، بيتٌ هجرهُ ذويه بسبب ما حل بغزة من احتراب وحروب، هذا البيت جعلني أحلقُ في بيت لحم، أخوضُ رحلة سردٍ روائي بين مدينتين، غزةَ وبيت لحم ضجَت بهما الحكاية المحملة بتفاصيل الإبعاد والاغتراب، فتناولتُ قضية مبعدي كنيسة المهد في بيت لحم إلى غزة ووقفتُ أمام قضايا اجتماعية وسياسية ودينية عبرتُ عنها في حبكةٍ روائية؛ لعلي أكشفُ المسكوت عنه.
ولأن جداتنا وأجدادنا جذر الحكاية، لم تشغلُني المدينة غزة المتخمة بالوجع عن البحث في رواية الماضي، في رحلة البحث بلسان السارد عن سرٍ مخطوطٍ مفقود يتضمن سيرة أجدادُه، فخاضَ في التاريخ مسافرًا إلى عهد إبراهيم باشا وحملَتُه على بلاد الشام والمراحل التي شهدتها فلسطين، وذلك تأصيلاً للرواية الفلسطينية وتثبيتها، فكانت رواية الصامت التي كتبتُ مؤخرًا وحبكتُها في خلطةٍ واقعيةٍ سحرية، اجتمعَ فيها الواقعُ والخيال والأسطورة والرمز والخرافة محلقًا في عوالمَ الفنتازيا.
هذا بعضُ مما قدمتُ وأنتجت، ما زلتُ أحاولُ وسأتنفَس..