بقلم: د. صبري صيدم
بهدوء وسكينة تمت إجراءات الطلاق بين آخر مستعمرة بريطانية والتاج البريطاني بعد 400 عام من الوصاية المتواصلة.
باربيدوس، الجزيرة الكاريبية النائمة شمال غرب المحيط الأطلسي، أعلنت في أيلول/سبتمبر الماضي عن قرارها تنحية ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية عن رئاسة الدولة، وفك الارتباط مع العرش البريطاني، وإلغاء الرموز الاستعمارية، بما فيها إزالة الشارات الملكية التي كانت تظهر على لباس الشرطة المحلية، وإزالة صورة الملكة من المؤسسات العامة والعملة المحلية، ليصل التغيير إلى اسم المشفى المركزي الذي حمل اسم الملكة ذاتها.
الجمهورية الوليدة خيّرت بريطانيا بين الطلاق البائن أو الانفصال الهادئ، وعليه اختارت بريطانيا عبر الخبير في شؤون الطلاق، أو بالأحرى الانفصال الهادئ ولي العرش الأمير تشارلز، ليتولى مسؤولية التعامل مع هذا الملف، ليس بصفته ولياً للعهد فحسب، بل أيضاً بصفته نائباً لوالدته في رئاسة رابطة الدول الخاضعة سابقاً للتاج البريطاني المعروفة بالكومنولث.
أمير الانفصال الهادئ عبّر عن احترام بريطانيا لرغبة الجزيرة، التي أعلنت استقلالها فعلياً ومن جانب واحد قبل 55 عاماً، لكنها بقيت بقرارٍ من لندن تحت الوصاية الملكية طيلة هذه المدة، لكن قبوله حمل عدة اشتراطات وافقت عليها الجمهورية الوليدة:
1- أن يتم الانفصال بعيداً عن الإعلام والطبل والزمر، لأسباب فنية كما قيل، تستند إلى الحاجة للاعتراف الدولي، بيد أن الأمر في الواقع يأتي تجنباً للمزيد من القهر الذي سيحدثه الأمر لبريطانيا، وتجاوزاً لفكرة أن التطبيل سيشكل إهانة للعرش ودليلاً حياً على أفول نجمه ودوره وحضوره.
2- أن تبقى الجمهورية الجديدة جزءّا أصيلاً من الكومنولث ولا تغادره.
3- أن يتسلم الأمير تشارلز رسمياً علم العرش البريطاني في احتفال وطني مهيب يحترم طقوس الطلاق او الانفصال الهادئ.
هذا فعلياً ما تم، حيث استقبل الأمير في عاصمة الدولة الوليدة بريدج تاون، وفق الطقوس الملكية التقليدية، وليشهد مراسم استلام علم العرش مُقدما إليه من الحرس الملكي المحلي، في آخر مرة يرتدي فيها زيه العسكري الموشح بالشارات الملكية ويعزف للمرة الأخيرة موسيقى تحية العرش. وليشهد أيضاً تنصيب حاكمة باربيدوس ساندرا ميسون، كأول رئيس للجمهورية الوليدة.
أمير الانفصال وافق على هذه الخطوات حتى يمتص نقمة الحالمين باستدامة حكم العرش لمستعمراته السابقة، وحتى يخفف من صخب الهزيمة ويلزم باربيدوس بالبقاء إسمياً في حضن رابطة الكومنولث، علّ هذا الإجراء يضمن أيضاً موقفاً سياسياً مسانداً لبريطانيا في المحافل الدولية.
هذا التفاعل الانفصالي، شكل أول تفاعل تطلق فيه باربيدوس زفير الخلاص من مستعمريها السابقين، وليشكل بمجمله أول تفاعلات الطلاق التي لفظت باربيدوس معه أوكسيد الهم والتخلف، وبدأت تنظر لدول كالصين لدعمها وتحقيق ازدهارها، ليصبح هذا التفاعل بمثابة أول أوكسيد الطلاق في القرن الحالي بعد أن أقدمت غيانا على هذه الخطوة في عام 1970، لتحذو ترينيداد وتوباغو حذوها عام 1976، ودومينيكا عام 1978.
ثاني أوكسيد الطلاق يجب أن يكون في فلسطين بعد عقود من النكبات والنكسات والقتل والدمار الذي تسبب به وعد بلفور، وما تسببت به بريطانيا جراء تسليم مفاتيح فلسطين للحركة الصهيونية. لذلك لا بد من دعوة بريطانيا للانخراط في حوار جاد تطلق فلسطين فيه تفاعلها الجديد مع رغبتها إطلاق ثاني أوكسيد الطلاق، وتتحمل بريطانيا مسؤولية إنهاء مهزلة الاحتلال الصهيوني، إذ لا يمكن أن يصدق المرء أن جزيرة صغيرة قادرة على صناعة تاريخ جديد بموافقة بريطانيا، في اليوم ذاته الذي تنشر فيه وزيرة خارجية بريطانيا وعلى صدر صفحات أهم الصحف المرموقة مقالاً مشتركاً مع وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي تتغنى فيه بحضارية دولة الاحتلال وديمقراطيتها وتشيد بالعلاقات المشتركة وتدعو لتطويرها. أي حضارية وأي ديمقراطية؟
إسرائيل دولة احتلال تخطت القانون الدولي وداست قرارات الشرعية الدولية، التي صوتت لصالحها بريطانيا، وتجاوزت حدود الديمقراطية المزعومة والآدمية الحضارية عبر أخذها شعباً بأكمله رهينة لاحتلال هو الأطول في التاريخ المعاصر.
تجربة باربيدوس التي نكتب عنها اليوم بشيء من الغيرة، لا بد أن لا تكون الظاهرة الكونية الوحيدة، بل يجب أن تتكرر من جديد كجزء من اعتذار بريطانيا عن ظلمها التاريخي للشعب الفلسطيني. اعتذار تأخر ومساع تأخرت، لكن أن تأتي متأخرأً خير من أن لا تأتي أبداً.