الكاتب: تحسين يقين
ربما نعود لنبدأ من حيث انتهينا، ولعلنا ما انتهينا فعلا؛ فعالم الطفل متحرك أسرع كثيرا من عالمنا نحن، وهذا ما نحتاج كأهالي خصوصا الأمهات والآباء وتربويين وفنانين وإعلاميين، وسياسات سكانية تتعلق بالأطفال والفتيان.
من طفل لطفل، فيستمتع الأطفال أولا بما سيتشوقون له، القادم من سياق أعمارهم، ومن طفل لكبير، فأيضا سيستمتع الكبار، لكن لعل رسالة أخرى ستصلهم، ألا وهي ان المسؤولية تقتضي التفكير مليا في أي نصّ يقدم للأطفال، وفي أي إنتاج فني وإعلامي.
ومعروف أين تكمن التدخلات إن أردنا تحسينا فعلا في مجال التربية العربية، ومنها بالطبع الفلسطينية، كجزء من التربية الإنسانية والعالمية، ولعلنا (لا نظل ننفخ في قربة مقطوعة)، جميل هذا المثل الشعبي الذي يغريني بكتابة مقال أعنونه به.
خمسة نصوص مدهشة معها عشرات النصوص الأخرى التي وصلت الى القائمتين الطويلة والقصيرة، من المسابقة الفلسطينية لأطفال فلسطين للكتابة والرسم، ضمن مشسروع واعد يحمل عنوان أنا الرواي.
ثمة إشارت تحمل الأمل من الأطفال أنفسهم، ومن كل أياد تمتد لهم محبة، تعمل على تنمية الإبداع وتشجيع الكتابة والرسم.
"لاوقت لدي" لمحمد سعيد عليان، حلم، لعب، على مدى النهار، حيث انشغال الطفل عن طعام الفطور والغداء والعشاء، بمشاعر الاندماج باللعبة بما فيها شعور الخوف، قامت مريم نصر شامية برسم ملامح خوف بإبداع، نص ورسم ومضمون لعبة تنتمي للتكنولوجيا الرقمية، حيث يندمج الطفل باللعبة عن طعامه، فهل كانت رسالة الطفل/الكاتب رسالة صحية وعظية للتشجيع على تناول الوجبات؟ أم كان بذكائه مؤكدا على أن اللعب جميل لدرجة تقدمه في الأولوية على الطعام؟
لقد حمل نص محمد خيطا دراميا قصصيا جميلا ساحرا، من بدء القصة الى نهايتها، بحيث عشنا معه وخفنا وأخفنا، لنخلد بعدها لنوم بريء.
حمل النص الثاني في كتاب "أنا المبدع" في نسخته الثانية، سنكون مع بيان سعيد اعطيوي كاتبا، وريماس هارون الرجبي رسامة، عنوان "سرّ القلادة"، الذي وظف الفانتازيا، حيث يكتشف طفل "قلادة الإخفاء"، فيستخدما لإنقاذ الأطفال من عنف جنود الاحتلال، حيث تظهر محبة الحرية على شكل شعر الفتى المحلق.
أما النص الثالث، وهو "الحذاء الذي يرقص عند سماع الموسيقى"، فقد كان مشوقا جدا، منذ العنوان، كتبته بيسان نبيل محمد العربي، بلغة وسرد مشوّق، فكيف يتحرك الحذاء المعلق على الشجرة عند سماع موسيقى البلبل؟ سنعجب جدا من حلها اللغز حين تكون الحركة هي حركة الفراخ ابتهاجا بالأم. وقد كان الرسم ابداعيا فعلا، مواكبا لإبداع النص، حيث رسمت جمان أحمد حمزة الحذاء/العش، بشكل جمالي جاذب، ينسجم مع الموسيقى والحنان والحب.
"كيف يمكنك"، هو النص الرابع الفائز ضمن مسابقة "أنا المبدع، الراوية الطفلة سعاد سمير كنعان، وهو نص إبداعي مدهش ومفاجئ لعالم الكبار فعلا، فالشخصية الرئيسية فيه شخصية الكلب، الذي يبث حزنه لتخلي الأسرة عنه، رغم تمسك الطفل به، لقد حمل جرعة عالية من الشعور المتضامن، من خلال مونولوج الكلب الحزين العاتب لما آل إليه الحال من الاستغناء عنه وتغير الزمان. إنه نص الوعي واللاوعي الذي يسكن قلب الأطفال، باتجاهات إنسانية تتمحور حول الوفاء.
ولعل الرسامة الراوية بريشتها إسشراء رياض بريك عبرت بإبداع عن ملامح حزن الكلب، ما يعني اهتمام الطفل بمشاعر الحيوانات، ورمزيا بالبشر.
"رفقة في حديقة الحيوان" هو النص الخامس والأخير في المجموعة، هو نص إبداعي مدهش ومفاجئ، يدل على عمق إنساني لدى عالم الطفولة، الذي لم يتقبل وجود الحيوانات في سجن حتى لو حديقة. أبدعت النص حلا يوسف عابدين، حيث أظهرت لنا تفاجؤ الطفلة بسلوك الحيوانات في الحديقة، غير الذي تعرفه عنها في الطبيعة، ونفورها من فكرة الحديقة. وأيضا كانت رسومات زينة محمد السميري إبداعية.
كانت النصوص الخمسة مفاجئة لنا فعلا، كونها إبداعية، تدل على اتجاهات جديدة فعلا ليس في كتابة الأطفال، بل فيما يقبلون عليه للقراءة.
انها بداية جديدة، في أدب الطفل ورسومات الأطفال، تؤشر على دور جديد، بعيدا عن التقادم، للتربية الفلسطينية والعربية.
لم يقم الأطفال بشكل عام يقلدون الكبار، بالرغم من الاتجاه التقليدي السائد، الذي يقوم على إعادة إنتاج الكبار مرة أخرى، فيبدو أن الأطفال والفتيان قد بدأوا التحرر من الكثير مما أثقل كاهلهم من لغة كلاسيكية ثقيلة، وجماليات لغوية تقيد النصوص وكتابها.
انتمى الأطفال الى عالمهم المعاصر في القيم والتقنيات، والوعي على القضايا الإنسانية؛ فكانوا فعلا أوفياء أولا لأنفسهم، وثانيا لمكانهم والزمان.
وهنا، ربما يكون الموقف مشجعا للحديث عن النصوص المدرسية، والقصصية والرسومات المقدمة للأطفال، التي ينبغي الإبداع فيها، لتلائم حاجاتهم وعالمهم، حتى تجذبهم فعلا، فما قيمة النصوص إن خلت من الشغف وكانت فقط للامتحان؟
كتابة الأطفال هنا للأطفال بالطبع ولنا، وكذلك رسوماتهم، تنبئ عن عصر جديد للتعامل مع الطفل، إن لم نحسن تقديم النصوص لهم، فسيتجاوزوننا.
هذه هي المرة الثانية التي أتناول فيه هذه المسابقة، ولعل التجربة في "أنا الرواي 2" أكثر إبداعل من التجربة الأولى، وهذا طبيعي، لعله هذه المرة اختار الأطفال أساليبهم، وتحرروا من التقليد، كذلك فإن وجود أدباء في مراحل المسابقة من البداي انتهاء بتحكيم النصوص، أثر إيجابا على مستوى الكتابة والرسم، حيث إننا إزاء نقلة نوعية.
إننا إزاء تطور نوعي آخر في "أنا الرواي نسخة 3" القادمة، حيث كنا شهودا على هذا النمو الإبداعي المدهش الذي يركز خطواته الإبداعية بقوة.
وهنا، ثمة علاقة عضوية من الضروري أن تنشأ ما بين الأدب والتربية، حيث يستفيد التربويون من كتاب أدب الطفل ليس في اختيار النصوص الققصية والشعرية، بل في اللغة التي تحمل مضامين المناهج المدرسية.
من جهة أخرى، تظهر لنا عشرات المشاركات المستوى الفكري الذي وصل إليه أطفالنا، ما يعني تقديم نصوص وأساليب تعلم تواكب ذلك كله، وعدم الارتهان للماضي.
في المجتمع العربي اليوم أفراد يمكن أن يتحملوا مسؤولية عالية، لا أن يتم إقصاؤهم، وكتابات الأطفال التي بين أيدينا تدفعنا الى البحث عنهم وتكليفهم بالعمل بل وتكريمهم، من أجل وضعنا على خارطة العالم الحيّ من أجل إحداث فرق، فكيف نتقبل أن يتم الاستمرار بتعليم الأطفال وتثقيفهم وترفيههم بالطرق القديمة الثقيلة؟ وهل أصحاب القرار غائبون أو مغيبون؟ أليس المطلوب هو خدمة الأطفال لتمكينهم بالتواجد في المستقبل، خصوصا أطفال فلسطين الذي سيكبرون ليواصلوا عملية التحرر الوطني؟ وكيف سننجز هذا التحرر كهدف نبيل وسام ونحن لم نتحرر من عقدنا؟ فعل سنورثهم عيوبنا أيضا؟ حرام أن يطول اشتباكنا العبثي فيما يتعلق بإدارة أمور الجيل القادم تاركينه لمصيره..إذن سيجد الأطفال أنفسهم يوما إزاء مدرسة وبرامج فنية وثقافية غير ذات صلة، ووقتها ستبدأ ثورة الصغار وأظنها قد بدأت فعلا بتفاوت بين طفل وآخر وبين مكان وآخر.
* أنا الراوي2 مشروع إبداعي نصا ورسما، ضمته مجموعة قصصية للأطفال، كتبها أطفال فلسطينيون، بتنظيم مؤسسة عطاء فلسطين التي قامت بإصدارها في كتاب بالتعاون مع دار طباق للنشر.