الكاتب: حسام أبو النصر
من الصعب جداً أن أتمالك نفسي، وأن أحيد العواطف لأكتب عن صديق وأخ كبير، كاتب مخضرم، صاحب تجربة وطنية عميقة صقلها في شتات وعززها في الوطن، متدفق الحبر، مواكب لكل الأحداث، التي عايشها وعيشنا فيها، رغم هدوءه الدائم وسكوته الحذر، إلا أنه صاحب موقف، صلب وعنيد، لا يتردد في الرأي، يتجاوز المجاملات، لا يعرف اللون الرمادي، غني المعرفة، ثري المعاني والأفكار، وصاحب رؤية اسشرافية، من خلال ربطه للأحداث، التي غالباً ما كان يرجعها لأصولها كي يفندها، لأنه يكره التهرب من مبدئها، دقيق الوصف، كما دقة ساعته، واحترامه للمواعيد، هاني حبيب المدرسة الإعلامية الفكرية الطويلة، التي تتلمذ علي يدها أجيال، إضافة لقراءه، ومستمعيه، عروبي بإمتياز، رغم انتمائه اليساري، إلا أن عطاءه كان شمولياً ووطنياً، رافضاً المساس بمنظمة التحرير بإعتبارها مظلة الجميع، كان يعتز بإنتماءه في الجبهة الشعبية، والعمل في ساحات الشتات منها، ودمشق، ونيقوسيا، بيروت، وعرف باسم الشهرة المعروف، في حين اسمه الحقيقي نبيل شنينو وقد يكون هناك دواعي كثيرة لذلك، المهم أنه استل قلمه مبكراً، وشاءت الأقدار أن يرافق صديقه غسان كنفاني في مجلة الهدف، فكان حبيب أحد مؤسسيها، وكتب فيها مع رفاقه اليساريين الآخرين، منهم هاني المصري، وخليل شاهين، وحسن خضر، وغيرهم وأنتج لها أهم مقالاته، كان وفياً لمعلمه حيث ذكر عبد القادر ياسين، أن حبيب كان يعتز بأنه تتلمذ على يد الراحل الكبير الإعلامي المصري نبيل زكي والذي خرج إلى بيروت لخلافه مع السادات، اتاحت هذه الفرصة لزكي أن يعمل في الهدف ويعلم حبيب مبادئ العمل الإعلامي، في سبعينات القرن الماضي، وكان يتردد حبيب محاضراً أو مرتاداً لورشة عبد القادر ياسين في دمشق والتي انتقلت بعد ذلك إلى التحرير في القاهرة، حيث كان حبيب عضوا في اتحاد الكتاب والأدباء في سوريا، وكما نعرفه لم يكن من هواة الشللية في المواقف، يحتفظ بأرائه للضرورة ويطرحها في الوقت المناسب، ولا يهمه في ذلك مواقف الآخرين منه، وكان يختلف بنبل، حتى عندما ترك الجبهة لم يحدث أن ذكر شيئاً عنها بسوء، كان وحدوياً وطنيته تغلب حزبيته، وكان معني بقراءة القضية الفلسطينية من خلال التغيرات المحيطة خاصة دولياً ويرفض تفسير الظواهر بعيداً عن ذلك، كان له أفق بعيد ونظرة ثاقبة للأمور، ويكره السطحية في الطرح، ومتمكن من معرفة الخبايا التي تؤهله لطرح مختلف المواضيع بقوة واستناداً لمعرفته، ومن يقرأ مقالاته يتعلم منها دروس الصحافة والاعلام والسياسة، ولا يكتب لمجرد الكتابة، بل ليحمل رسالة، بمقالات فسيفسائية فيها تاريخ وسياسة وجغرافيا وفكر، تسافر معه إلى حيث يريد أن يأخذك لكن بواقعية ودون مبالغة.
بعد رحلة شتات طويلة استقر به الأمر في غزة التي لا تبعد سوى عدة كيلو مترات من قريته المهجرة اسدود على الساحل الفلسطيني، والتي استشهد فيها والده خلال مجزرة خان يونس 1956م، لذلك ارتبط بالبحر وشاطئه الذي احتضن شتات عائلته، التحق بوزارة الاعلام بعد عودة السلطة الوطنية مع أصدقاء اعلاميين كبار منهم حسن الكاشف، وطلال عوكل، وتوفيق أبو شومر، وغيرهم، ضمن رؤيتهم الوطنية للمساهمة في بناء مؤسسات السلطة، كتب في عدة مجلات وصحف فلسطينية، أهمها عمود صحيفة الأيام الشبه أسبوعي، والتي عايش خلالها كل الحروب على غزة خاصة بعد الانتفاضة الثانية فكان صلباً، وناطقاً بإسم معاناة شعبنا تحت القصف، ولم يتوارى لحظة بل كان يتقدم الجميع حين يشتد العدوان وصوته بقي صداحاً في وسائل الاعلام، لينقل بتحليلاته الدائمة الحالة التي نعيشها للعالم ويستقرأ في كل مرة، ما سيحدث لاحقاً، والأهداف من كل ذلك، وخاصة قراءته للتحركات الإسرائيلية ضد شعبنا من خلال تفكيك حكوماتها وتصرفاتها، وتحليل تصريحاتها، للوصول للحقيقة، كان جريئاً وغير مجامل لأي نظام عربي، خاصة أنه كان قليل السفر، فحدثني أنه في احدى المرات شكى خلال لقاء على الهواء مباشرة عدم السماح له بدخول مصر، وكان بصدفة يتابعه مسؤول مصري، فتحدث معه بعد اللقاء وأمن له دخول مصر في حينه، بل وحتى في انتقاده الوطني، كان منشغلاً في تصويب الحالة، وكان متخوفاً من المد الإسلامي، والاستحواذ على السلطة، ومتمترساً في قناعته اتجاههم، ورغم ذلك كان مندفعاً نحو العمل الوحدوي واحداث اختراق في المصالحة الوطنية فلم يغب عن أي فعالية ضد الانقسام، وكان متصدراً الندوات والمؤتمرات في غزة بحضوره القوي الوازن، يحاول دائماً تصويب الحالة وتأصيل الواقع للوصول إلى حلول، وحين قمت بتأسيس مجموعة الحكماء المئة، التي كانت من أهدافها انهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة، كان أول المنضمين وشكل دافعاً رئيسياً لنجاح المجموعة، رغم محاذيره وقناعاته المسبقة في وقتها أن الأطراف لا يريدون المصالحة لكن كان مؤمن بدوره واستمرار العمل، فكان مؤسساً في مجموعة الحكماء، وعرفناه رجل ظل لا يحب المناصب ولا يتطلع لها، وحين طلبت منه ذات مرة أن يترأس المجموعة رفض واعتبر نفسه فرداً منها يقدم كل ما يمكن لانجاحها، هكذا كان حبيب حتى في خلال عمله في السلطة لم يكن طامحاً لمنصب كبير، كان قنوعاً ويؤدي دوره الوطني دون الحاجة لأحد ودون كلل أو ملل ولا ينتظر من أحد شكر أو مقابل، رغم الحالة السوداوية المحيطة، الحديث يطول عنه، فالمواقف كثيرة، أذكر حين أصدرت كتابي كلام رصاص كان أول المبادرين لكتابة المقدمة مع مجموعة من الأصدقاء وعنون مقاله " أبو النصر الذي لم نعرفه!" وكان هذا المقال بمثابة شهادة وسام أعلقه على صدري ما حييت، هاني حبيب الأخ والصديق الصدوق، المناضل الذي آمن بتدافع الأجيال، لذلك شارك في مؤتمر الشباب الاجتماعي العالمي الذي عقد في تونس عام 2013 وتشرفت ان اشاركه الرحلة وتعرفنا هناك على تجارب مختلفة من دول العالم ونقلنا تجربتنا الفلسطينية لهم، بل بعدها هاتفته لعمل مراجعة نقدية للمشاركة الفلسطينية في المنتدى وكان الوحيد الذي وافق على ذلك لأنه يعتبر نقد ذات تصحيح للمسار، كان يعطي وقته وجهده لفلسطين، وقد يكون من حسن حظي أني عايشته في سنوات استقراره في غزة قبل أن أغادر إلى رام الله، وكان لي نصيب الأسد في أن أكون معه في مختلف الفعاليات الوطنية والمظاهرات والوقفات التي كان يتقدمنا دائماً بحضوره الهادىء، الرزين، أخاً وسنداً لنا في كل المواقف، رغم فارق السن إلا أني كنت أستشعر قربه ومودته، ولم أشعر بهذا الفارق، لتواضعه ودماثته واحترامه، كنت أخجل منه لذلك، وقد زاملته في الكتابة في عدة مجلات منها مجلة تسامح التي كانت تصدر في رام الله، وايضاً في مجلة الهدف التي ساهم في اعادتها إلى النور مع مجموعة من الكتاب، بعد سنوات طويلة، بمديرها العام كايد الغول، ورئيس تحريرها وسام الفقعاوي، كما كتب في مجلة الدراسات الفلسطينية بشكل غير منتظم، ولكن بالتأكيد أصدقاءه من جيله، ورفقاء دربه هم كثر ممن عايشوه في الشتات ولهم شهادات كثيرة وغنية معه، في الحرب، والأحداث، في لبنان وسوريا، وغيرها من المنافي، لكني حاولت أن أسلط الضوء على تجربتي ومسيرتي معه والتي توطدت بشكل كبير، خاصة خلال تردده إلى بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية، فكلما اتصلت به لتقديم ندوة ما لا يتردد في ذلك، لمواكبة كل المستجدات ولايمانه بعملنا الوطني، وهذا ما جعلني اشتد له أكثر، بل كان حاضراً أيضاً كمستمع، لم يخبل علينا لحظة بعطاءه وافكاره، كان متطوعاً لذلك، وهو ما جعله مختلفاً عن آخرين في المهنة قد استسلموا للماديات، كان إنساناً بالدرجة الأولى، رحل الحبيب هاني حبيب وهو على مشارف السبعين من العمر، مغادراً عالمنا المؤقت إلى الابد، دون أن تتحقق المصالحة، ودون أن تتحرر أراضينا، التي ناضل وكرس حياته من أجلها، لنسدل الستار عن أحد أهم مشاهد الإعلام والفكر الفلسطيني، ونطوي صفحة مشرفة من صفحات فلسطين، في رحلته الأخيرة، بغيابه القاسي، والمؤلم، لكل من عرفه، وكل من قرأ له، لتصدر الصحف الفلسطينية دون مقاله متوشحة بالسواد.