السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

اغتيال الكلمة وماراثون الشطب!

نشر بتاريخ: 04/05/2022 ( آخر تحديث: 04/05/2022 الساعة: 14:52 )
اغتيال الكلمة وماراثون الشطب!



بقلم: د. صبري صيدم

حتى الكلمة باتت عبئاً على مسامع البعض وجزءاً من منظومة الماضي، وهماً لا بد من التخلص منه، ففلسطين وثوارها وفدائيها وقدسها وحريتها ومقاومتها باتت هواجس تسكن البعض، وتعكر سماءهم وتؤرق منامهم وتقض مضاجعهم! فعالم التطبيع والتزاماته واستحقاقاته وبيئته ومناخه وثقافته، باتت جميعها تستوجب سرعة التخلص مما ارتبط بفلسطين وأهلها لعقود خلت.

وبهذا بدأت الحرب المسعورة على الكلمة والنص والقصيدة، والمنهاج والخطاب والبيان، والموقف والرأي، والنشيد والأغنية والأحجية والفكرة، وحتى الحرف. كلها شهدت إعلان الحرب عليها فاستلت الأقلام وشحذت الهمم واستعدت المطابع، وانطلق الجهد معلناً عن استقدام الكتبة الجدد وأبطال الشطب المحموم وجهابذة صياغة النص المنبطح ونجوم التعديل الذليل وصناع الفكر الملتوي ومهندسي الكلمة المتخاذلة… وأي فكر أو أي كلمة هذه؟!

فللتطبيع استحقاقاته ومسؤولياته ونتائجه، لذلك لا بد من أن ينطلق ماراثون الشطب دونما هوادة واغتيال الكلمات دونما رحمة، فلا لغة الماضي باتت مهمة ولا جمل المقاومة عادت مفيدة، بل ذهب البعض للمطالبة بالواقعية السياسية والجغرافية والتاريخية، وراح البعض الآخر لتحميل غيره مسؤولية الفشل التاريخي، الذي لم يترك خياراً إلا خيار التطبيع كما قالوا.

وأياً كانت نماذج الانبطاح العربي فكلها مؤلم، لكن الأكثر إيلاماً كان الشطط في خطوات التطبيع بصورة أشبه بالابتذال والرخص وانعدام الكرامة.

البعض قال إن ما يجري هو ما كان يجري في الخفاء، وإن الفارق إنما يكمن بانتقال ذلك الخفاء إلى حيز الواقع حتى يرى فيه ترامب المطرود وحاشيته وجمهور المطبعين ومن دار في فلكهم نجاحاً باهراً، فينقل المستور إلى مساحة الضوء وترفع السرية عن التردد والاستتار، ويصبح أمر التطبيع وتفاصيله واقعاً عادياً ومقبولاً ومكشوفاً، ولتبدأ محرمات الأمس في تحولها إلى محللات اليوم بامتياز.

المفارقة أن هذا الأمر لم يقتصر على عوالم التقليد، وإنما تخطاه إلى الفضاء الإلكتروني، فغابت على الكوفية، ويا طير الطاير، وحماسيات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وآهات أبو عرب بطل الأغنية الشعبية الفلسطينية الوطنية، وأغاني العاشقين وروائع مارسيل خليفة والشيخ إمام، والمساهمات الفنية والثقافية اللامتناهية لعشاق فلسطين من أهلها ومحبيهم، كلها بلمح البصر أزيلت عن مواقع البعض واغتيلت بالكامل عن منصاتهم لتبقى أغاني العشق والهيام والغرام وبكائيات العروبة وحسرات المحبين، إضافة إلى محاولات الغناء الهابط بكامل تفاصيله حية مطمئنة في مكانها.

ماتت الكلمة يا جماعة، اغتيلت الكلمة يا نشامى، ومعها انطلق ماراثون الشطب، حتى يرضى شلومو ويهنأ مقاولوه بأن مسيرة التطبيع حتماً متواصلة وجارفة وحارقة وجارحة لكنها وبحساب الأوفياء لفلسطين حتماً مارقة! إلى كل من رق قلبه لمسيرة التطبيع وجهد الاغتيال هذا نقول… انتظروا مقاصل التاريخ! عندها لا ينفع مال ولا بنون. عاشت فلسطين حرة أبية!