بقلم: د. صبري صيدم
ترسانة نووية وكيماوية وجرثومية تمتلكها إسرائيل مصحوبة بقوة نيران هائلة تشتمل على صنوف السلاح هي الأحدث في المنطقة، وتتوزع بين القوات البرية والبحرية والجوية، يستخدمها جيش نظامي من جميع نساء ورجال الدولة ممن تخطوا حاجز الـ18عاماً تسنده قوات النخبة والمستعربين والاحتياط وحرس الحدود وقائمة لا تنتهي من مقومات الجبروت، بما فيها التصنيع الحربي المتقدم ووحدات الدعم الإلكتروني والرصد المتابعة ومشاريع الفصل العنصرية والجوسسة والاغتيالات، والقائمة تطول من معالم القوة والقدرة.
لكن قوة كهذه وما يصاحبها من غطاء سياسي وتطبيع عربي وتواطؤ أمريكي وتقاعس دولي، لم تستطع أن توفر غطاءً آمناً قبل أيام لدخول مستوطن واحد إلى القدس العربية، للمشاركة فيما سمي بمسيرة الرايات أو ذكرى توحيد القدس المزعوم، حتى احتاجت دولة الاحتلال أن توفر غطاءً عسكرياً من معظم هذه القوات، عن أي سيادة إسرائيلية إذن تتحدث إسرائيل؟ وأين هي قدس إسرائيل الموحدة والموعودة؟ لا سيادة لإسرائيل على القدس مهما حاولت إدعاء ذلك، ولا يمكن بكل قواها أن تحقق هذا الهدف حتى لو استخدمت كل جبروتها.
مشهد الأيام الماضية يدعو للفخر والحزن في آن واحد، فخر مستند إلى جبروت أهل القدس المسلمين والمسيحيين وصبرهم واستبسالهم واستئسادهم الذي رأيناه وعشناه جميعاً. أما الحزن إنما هو نتاج تخاذل المطبعين وتساوق المتواطئين وتقاعس المدّعين وانبطاح المطبلين.
ولعل صورة الحزن الأكثر إيلاماً كانت مع استحضار المشهد ذاته الذي واكب الليلة التي سبقت معركة القسطل بقيادة البطل الراحل عبد القادر الحسيني عام 1948، الذي وجد نفسه وأمام تخاذل العرب، يخط رسالته الشهيرة للأمين العام لجامعة الدول العربية محملاً إياه المسؤولية الكاملة لتركه مقاتلي الحسيني من دون سلاح أو عتاد! إذ شعر الشعب الفلسطيني، خاصة الأهل في القدس بأن صدورهم وظهورهم قد تركت مكشوفة، دونما دعم حقيقي يستطيع من خلاله هؤلاء أن يدافعوا عن مالهم وعرضهم وبقائهم.
ومع ذلك فقد أثبت الفلسطيني بوسائله الإبداعية البسيطة قدرة عجيبة على الثبات والمواجهة، إلى أن حلق العلم الفلسطيني محمولاً على أجنحة طائرة مسيرة صغيرة فوق القدس الأبية بأقصاها وقيامتها وأبوابها ومآذنها، وكل ما فيها من كل مقومات العز والفخار، ليحتل ذلك العلم الفلسطيني المشهد، ولينقلب السحر على الساحر فيصبح العلم سيد المشهد وليحتل الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار ويصبح حديث الساعة. مسيّرة حاصرت مسيرة، وعلم حاصر أعلاماً، ومشهد تجاوز مشاهد كثيرة، كله كان وتصاعد بفعل الإرادة الحديدية التي قادها الكم الأكبر من الغيارى فتباهوا بها وتغنوا بتفاصيلها، بينما ذهب البعض من أبناء جلدتنا باتجاه مكافأة إسرائيل على قتل الشهيدة أبو عاقلة ومطاردة نعشها واستمرارها في استهداف النساء والأطفال ومقارعة الشجر والحجر على امتداد الأرض العربية من البحر إلى النهر، فوسعوا شراكاتهم معها بعد أن احتفوا بميلادها المشؤوم، يوم نكبتنا وقتلنا وتهجيرنا.
البعض قرر السكوت لأسباب لم تقنع الكثيرين، حتى خفي واختفى من أمره ما كان أعظم لا محالة، في معركة سيحرص الاحتلال على استمراريتها وتوظيفها لإقناع ذاته بأنه يمتلك القدس، بينما لا يمتلك منها إلا الخيبة والانكسار. عاشت فلسطين حرة أبية!